هذى المجرّة والنجوم كأنها ... نهر تدفّق فى حديقة نرجس
قوما اسقيانى قهوة روميّة ... من عهد قيصر دنّها لم يمسس
صرفا تضيف إذا تسلّط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس
والصورة فى البيت الثانى جيدة إذ جعل نهر المجرة يتدفق فى حديقة نرجس، وجعل الخمر فى البيت الأخير تميت العقول فى رأيه، ولكنها تحيى النفوس. وله خمرية قالها فى عيد المهرجان، وهى تخلو من مقاذره غير أن فيها تبجحا شديدا باعترافه بعصيانه لربه لشربه الخمر مع ما جاء من تحريمها فى الذكر الحكيم.
وكل ذلك كان يريد به التماجن والتعابث والإضحاك، وقد عاد فى هذه القصيدة أو الخمرية يعلن أن رأس ماله كله خسران إلا ما كان من حبه لآل البيت وللرسول عليه السلام والإمام على وفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وتكثر فى أشعاره الكدية أو الشحاذة الأدبية، فهو يكثر من بيان فقره وحاجته، وأنه لا يجد المرق فضلا عن اللحم، وأنه دائما يأكل الخبز بالملح دون إدام فيجرح حلقه من خشونته، ودائما لا يجد صوفا يقيه برد الشتاء ولا خيشا يقيه حر الصيف. وكل ذلك دعابة وفكاهة، فقد كانت الدنانير والدراهم تنسكب عليه من كل جانب.
[٣ - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية]
منذ ظهور الإسلام يعدّ الزهد والتقشف من صميم حياة المسلم، زهد فى طيبات الحياة ومتاعها وإقبال على ما عند الله من ثواب الآخرة، وهو إقبال يوازن فيه المسلم بين نسكه وتعبده لربه وبين السعى لرزقه، فهو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا. وهو يضع ثقته فى الله ويتوكل عليه حق التوكل، ولا يرى فى سعيه لكسب قوته ما يقلل من هذا التوكل أو تلك الثقة. وتلقانا فى العراق مع العصر الأموى طوائف من النساك والعباد الزهاد، فالزهد والنسك قديمان فى هذه البيئة، وأخذت تتسع موجة الزهد مع العصرين العباسى الأول والثانى. وظلت حادة فى هذا العصر، ولا شك فى أنها كانت أحدّ وأكثر اتساعا وجمهورا بل جماهير من موجة اللهو والمجون، فقد كانت هذه