للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢ - خطباء السياسة]

نمت الخطابة السياسية فى هذا العصر ونهضت نهوضا عظيما، إذ دارت على كل لسان مؤيد أو معارض للدولة، فأيان وليت وجهك فى السلم والحرب وجدت الخطباء متراصّين فى صفوف متلاحقة يخطبون الناس محاولين أن يستميلوهم إلى آرائهم داحضين بكل ما وسعهم آراء خصومهم. وتموج كتب الأدب والتاريخ بما نثروه من خطبهم وأقوالهم وارجع إلى الطبرى فستراه لا يعرض عليك أى رأى دون أن يشفعه غالبا بما خطب به صاحبه وأورد من حجج تؤيده، وكثيرا ما يناقضه خصومه مظهرين ما فى رأيه من تمويه.

وليس هناك حزب ولا ثورة كبيرة أو صغيرة إلا وخطباء كثيرون ينبرون للترويج لهذا الحزب، أو تلك الثورة، فللخوارج خطباؤهم، وكذلك للشيعة وللزبيريين ولابن الأشعث وغيره من الثوار. وكان يقابل هؤلاء الخطباء المعارضين للدولة خطباء كثيرون يؤيدون بنى أمية من ذات أنفسهم أو من ولاتهم وقوادهم.

وهناك فى أطراف الدولة شرقا وغربا خطباء مفوهون يستحثون الجيوش على الجهاد فى سبيل الله والتنكيل بأعدائهم تنكيلا شديدا. وبذلك انتشرت الخطابة السياسية فى كل مكان وعلى كل لسان.

ولعل حزبا لم يكثر خطباؤه كما كثروا فى الخوارج، إذ كانوا شديدى الحماسة لعقيدتهم، ولم يدعوا لها سرّا كما دعا الشيعة فى أكثر الأمر، بل دعوا لها جهارا، شاهرين سيوفهم فى وجوه بنى أمية وولاتهم. على أنه ينبغى أن نلاحظ أن جمهور خطبهم سقط من يد الزمن ولم يصلنا، لأن الناس من غير بيئتهم كانوا يتحرجون من روايتها، إذ كانوا يرون فيهم ثوارا خارجين على الجماعة، ويظهر أنهم أنفسهم لم يحرصوا على تسجيلها وروايتها. ومع ذلك فقد بقيت منها بقية احتفظت بها كتب الأدب والتاريخ، وأيضا فإنها احتفظت، وخاصة كتاب البيان والتبيين، بأسمائهم (١).


(١) البيان والتبيين ١/ ٢٤٣ وما بعدها و ٢/ ٣٦٤ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>