وتلك كانت معيشتهم بين صيد للوحش وصيد للإنسان ورعى للأنعام والأغنام، فتلك موارد رزقهم، وليس معنى ذلك أنهم كانوا متساوين فى هذا الرزق، فقد كان فى كل قبيلة السادة الذين يملكون مئات الإبل والفقراء الذين لا يملكون شيئا. وتحول كثير من هؤلاء الفقراء إلى قطاع للطرق يسلبون وينهبون ويقتلون على نحو ما هو معروف عن تأبط شرا والشنفرى وأضرابهما. وما كان يقوم به هؤلاء الذؤبان أو الصعاليك كانت تقوم به القبائل برمتها أحيانا حين تكفّ السماء عنهم غيثها وتجدب ديارهم وتمحل، فلا يكون أمامهم سوى الغزو وشن الغارات، ولعل ذلك هو الذى دفعهم دفعا إلى الإشادة بالكرم والكرماء، وقد أشادوا طويلا بهذه الفضيلة كما أسلفنا، وهى إشادة طبيعية فى هذه الصحراء المقفرة المهلكة، التى يحفّ بها المحل والجدب من كل جانب.
[٣ - المعارف]
ليس بين أيدينا ما يدل على أن العرب الجنوبيين أورثوا عرب الشمال حضارة واضحة، ويظهر أنهم لم يختطوا فى طريق الحضارة خطى واسعة، فقد كان عندهم علم بالزراعة وهندسة إرواء الأرض وإقامة المدن، ولم يكن عندهم ثقافة ذات معالم بينة، وحتى من وجهة التنظيم السياسى كان يعمهم النظام الإقطاعى، ولذلك حينما ضعفت دولتهم الأخيرة دولة سبأ وذى ريدان وحضرموت ويمنات أو الدولة الحميرية تحولوا سريعا إلى قبائل بدوية.
ومما لا ريب فيه أن العرب الشماليين كانوا على صلة بالحضارات المجاورة، فقد كان تجّار مكة يدخلون فى مصر والشام وبلاد فارس، وكان الحيريون يتصلون مباشرة بالفرس، كما كان الغساسنة يتصلون بالروم، وقد تنصروا، وشاعت النصرانية فى قبائل الشام والعراق، ونزل بينهم كثير من اليهود فى الحجاز واليمن. وكل ذلك معناه اتصال العرب الشماليين الأمم المجاورة وحضاراتها، ولكن يبدو أن ذلك كان يجرى فى حدود ضيقة وأنه وقف فى جمهوره عند تأثرات بسيطة كأن يأخذوا عن الفرس والروم بعض فنون الحرب أو يعرفوا بعض أخبارهم وأساطيرهم، ففى السيرة النبوية أن قريشا حين جمعت العرب-بعد موقعة أحد-لغزو المدينة أشار