للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهت فأظلم كل شئ دونها ... وأنار منها كلّ شئ مظلم

فهى تودعه والهة لفراقه، ويحس كأنما طمست بنورها كل ضوء من حولها، وأنها سرعان ما كنت الوجود بنورها، ففارقت الأشياء الظلمة والظلام. وكثيرا ما يمتدّ هذا التضاد فى وصفه، فتتوالى الأبيات مغموسة به على نحو وصفه المشهور لقلم ابن الزيات وزير المعتصم، وفيه يقول (١):

لعاب الأفاعى القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل (٢)

له ريقة طل ولكنّ وقعها ... بآثاره فى الشرق والغرب وابل (٣)

فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل (٤)

وكثير ممن كانوا وراء أبى تمام وأبى نواس وبشار كانوا لا يقلون عنهم محاولة فى الإتيان بطرائف المعانى والصور، وكانوا ما يزالون يغدون ويروحون على مجالس المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، كما كانوا يكبّون على قراءة كتب الفلسفة والثقافات الأجنبية، محاولين أن يكتسبوا من ذلك كله ما يتيح لهم فى أشعارهم أن يشيعوا فيها المعانى النادرة والأخيلة المبتكرة.

[٣ - التجديد فى الموضوعات القديمة]

ظل العباسيون ينظمون فى الموضوعات القديمة من المديح وغير المديح مما كان ينظم فيه الجاهليون والإسلاميون وبذلك أبقوا للشعر العربى على شخصيته الموروثة، وقد مضوا يدعمونها دعما بما لاءموا بينها وبين حياتهم العقلية الخصبة وأذواقهم المتحضرة المرهفة، فإذا هى تتجدد من جميع أطرافها تجددا لا يقوم على التفاصل بين صورة هذه الموضوعات الجديدة وصورتها القديمة، بل يقوم على التواصل الوثيق.


(١) الديوان (طبع دار المعارف) ٣/ ١٢٣ وطبعة بيروت ٢٢٩.
(٢) لعاب الأفاعى: سمها. والأرى: العسل واشتاره: جناه.
(٣) الطل: المطر والندى الخفيف. والوابل المطر الغزير.
(٤) راجل: ضد راكب، ويريد بركوبه إمساك الأصابع به للكتابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>