وحشة شديدة الحرارة، حتى أفاء عليه التصوف بظلاله الوارفة، ظلال نهل فيها كئوس المنى. ومن ينهل منها لا يستطيع أن يفارق مواردها وينابيعها الثرّة أو يصدّ عنها، لأنها ينابيع الصلاح والرشاد. ومازال القشيرى غارقا فى هذه المشاعر الصوفية ناعما بها حتى توفى سنة ٤٦٥ بنيسابور ودفن بجوار شيخه أبى على الدقّاق.
يحيى (١) السّهروردىّ
ولد يحيى بن حبش حوالى سنة ٥٤٥ للهجرة بسهرورد فى الإقليم الإيرانى المعروف باسم إقليم الجبال، وبموطنه تلقى ثقافته الأولى، وتركه مبكرا إلى مدينة المراغة، ثم إلى أصفهان حيث درس الفقه وأكبّ فى أثناء ذلك على كتب التصوف والفلسفة. وأعجب بالصوفية فصحبهم وأخذ نفسه بطرقهم فى الرياضة والمجاهدة. وأكثر من الرحيل للقاء العلماء والمتفلسفة والمتصوفة. ومدّ تجواله وترحاله إلى ديار الشام. وكان قد أصبح شيخا من شيوخ التصوف الفلسفى، فكان يجادل الفقهاء. واستوت له فلسفة تصوفية إشراقية تعتمد- كما يقول دارسوه-على غنوصية آسيوية، وخير ما يصور ذلك من كتبه الكثيرة التى بلغت أكثر من أربعين كتابا مصنّفه:«حكمة الإشراق» وهو قسمان: قسم خصّ به المنطق الذى يضبط الفكر ضبطا دقيقا، وقسم ثان قصره على الأنوار الإلهية، عرض فيه لنور الأنوار وحقيقته وما يصدر عنه، كما عرض فيه للمعاد والنبوات والمنامات. وهو ينقد المنطق والفلسفة نقدا واسعا، غير أنه يراهما ضروريين للمتصوف، حتى يتعانق فى داخله العقل والقلب أو الذوق. ولجّ السهروردى فى نظرية النور وما يقابلها من الظلمة، وكأنه يتأثر النحل الفارسية من زرادشتية وغيرها فى ثنائية النور والظلمة وتقسيم العالم إلى عالم ظلمة وعالم نور. وفى رأيه أن الموجودات انبثقت عن نور الأنوار بطريق الفيض إلى ما لا نهاية، ومن ثمّ كان يقول بوحدة الوجود وبالحلول الإلهى فى الكون والكائنات. وذهب إلى النبوات لا تنقطع وأن الحكيم الصوفى المتوغل فى تصوفه أفضل وأسمى من الأنبياء. وكان طبيعيا أن يكفّره الفقهاء فى «حلب» وأن يحملوا الملك الظاهر ابن صلاح الدين على قتله سنة ٥٨٧ للهجرة. ولما تحقق القتل كان ينشد:
(١) انظر فى ترجمة يحيى السهروردى معجم الأدباء لياقوت ١٩/ ٣١٤ وابن خلكان ٦/ ٢٦٨ وعيون الأنباء فى طبقات الأطباء ص ٦٤١ وقد خلط ابن أصيبعة بينه وبين الشهاب عمر السهروردى المتصوف البغدادى السنى، وانظر مرآة الجنان ٣/ ٤٣٤ ولسان الميزان ٣/ ١٥٦ والنجوم الزاهرة ٦/ ١١٤ ودائرة المعارف الإسلامية وتعليق الدكتور محمد مصطفى حلمى على ترجمته فيها وفتاوى ابن تيمية ٥/ ٩٣ والفلسفة الصوفية فى الإسلام لعبد القادر محمود (طبع دار الفكر العربى) ص ٤٤٠ وما بعدها.