الياسمين بدوره على التوارى والانطفاء، وأخذ ظلام الليل ينبرى وينكشف عن أضواء الصباح وكأنه غراب حالك السواد اضطره إلى مفارقة بيض له ظل يستره، وورد الصبح بل ماؤه بلّل جناح الجو تحية للمصبطحين والندى يقطر من النرجس والأزهار والورود وكأنه دموع أسبلتها الجفون. وهى صور بديعة متلاحقة. وقد تداول القصيدة أدباء الكدية والشحاذة الأدبية فى الأندلس ممن يسميهم ابن بسام باسم القوّالين، وكانوا يقفون على الأبواب منشدين الشعر لقاء بعض الدراهم، وإنما اختاروها لما يجرى فيها من عذوبة وسلاسة وروعة فى الموسيقى والتصاوير.
على (١) بن حصن
هو أبو الحسن على بن حصن الإشبيلى، من شعراء أمير إشبيلية المعتضد، نشأ معه، وكان بعجب به وبشعره فاستوزره حين أصبح له صولجان إمارتها بعد أبيه إسماعيل. وظل الجوله صافيا إلى أن لحق ابن زيدون بالمعتضد، واتخذه وزيرا له معه، وكان فى ابن زيدون شئ من الدهاء استحوذ به على قلب المعتضد، فنفس ذلك عليه ابن حصن. وكان المعتضد يدعوهما أحيانا إلى المساجلة بالشعر بين يديه، فكان ابن حصن يتفوق عليه لسرعة بديهته ورضاه بالعفو من طبعه، غير أن ابن زيدون كان يعلوه بحلمه ووقاره.
وكان فى ابن حصن تهور وطيش فزلّت قدمه وأدّياه إلى أن يسفك المعتضد دمه، وكان سفاحا للدماء قتل كثيرين من وزرائه وخواصه.
ويشيد ابن بسام بشاعرية على بن حصن قائلا عنه:«أحد من راش سهام الألفاظ بالسحر الحلال، وشقّ كمائم المعانى عن أفتن من محاسن ربّات الحجال، بين طبع أرقّ من الهواء، وأعذب من الماء، وعلم أغزر من القطر، وأوسع من الدهر». ويعجب ابن بسام من قوم أضربوا عن ذكره، وزهدوا فى شعره ويعلل ذلك بأشعار له كثيرة كان يعبث بها بين مجونه وسكره، ويقول إن إحسانه أكثر وفضله أشهر، وينوه بروعة تصاويره، ومن قوله فى إحدى خمرياته الماجنة:
خضبت بنان مديرها بشعاعها ... فعل العرارة فى شفاه الرّبرب
والربرب: القطيع من بقر الوحش، يقول إن الخمر خضبت بنان الساقى بشعاعها
(١) انظر فى على بن حصن وترجمته وشعره الذخيرة ٢/ ١٥٨ وما بعدها والحميدى ص ٢٩٦ والبغية ص ١٤٣ والمغرب ١/ ٢٥٠.