هذه الموجة من اللهو والمجون إنما كانت مقصورة على البيئات المترفة التى أفسدها الترف وعلى الحانات والأديرة ومن كان يختلف إليها من الناس والشعراء؛ ولم يكونوا يؤلفون إلا شطرا ضئيلا من الجمهور. أما شطور الجمهور الأخرى فلم تكن تعرف الترف ولا كانت تنغمس فى الخمر والإثم، إنما كانت تعرف شظف العيش وتعرف تقوى الله وتجد فيها ما يعينها على احتمال أعباء الحياة، مما جعلها تنصرف إلى سماع الوعاظ فى المساجد ببغداد وغير بغداد وسماع أهل الحديث والفقه والتفسير. وكانت دائما تدوّى فى آذانهم كلمات الوعاظ والنسّاك وما يدعون إليه من رفض الدنيا ومتاعها الآثم والتفكير فى مصير الإنسان وما ينتظره من ثواب وعقاب فى الآخرة. وكان هؤلاء النساك والوعاظ كثيرين كثرة مفرطة، وكان لكثير منهم حلقات فى المساجد يستدير الناس من حولهم فيها لسماع ما يتحدثون به عن الوعد والوعيد وعذاب النار ونعيم الجنان والمحشر وما يكون فيه من أهوال. وفى كل مكان نجد بينهم قصّاصا يقصّون على الناس من سير الأنبياء والأمم الداثرة ما يدفعهم دفعا إلى العمل الصالح. وتقرأ ترجمات هؤلاء القصاص والوعاظ فتحس فيهم إيمانا صادقا وورعا مخلصا، وكانوا كلما عرض خليفة أو وال على شخص منهم عملا أو منصبا رفضه فى إصرار، مؤثرا حياته الخشنة على اللباس الليّن والطعام الطيب والماء البارد. حياة كلها خشوع وزهد واحتقار لمتاع الدنيا فى جانب ما أمّل من متاع الآخرة. وظل نفر منهم يرافق الجيوش فى الثغور واعظا وقاصّا ومذكرا بما أعدّ الله للمجاهدين والمستشهدين من ثواب عظيم، على نحو ما هو معروف عن أبى العباس الطبرى المتوفى سنة ٣٣٥، وكان من أخشع الناس قلبا إذا قصّ، ويروى عن موته أنه قص على الناس بطرسوس (من ثغور الشام) فأدركته روعة مما كان يصف من جلال الله وعظمته وملكوته فخرّ مغشيّا عليه من الموت (١).