صحبنى فى الطريق من المدينة، على ساكنها الصلاة والسلام، إلى البيت الحرام، أحد الشيوخ من شرفاء المدينة، فلما وافينا رابغ، رأيت عجبا من تخلل الوحوش والغزال والأرانب، بين الجمال والرحال، بحيث ينالها الناس بأيديهم، والناس ينادون: حرام، حرام، والجوارح قد سلست. . فقال لى ذلك الشيخ تأمل تر عجبا! هكذا جرت عادتنا فى هذا الطريق، إذا مررنا به ونحن محرمون نجد به من الوحش ما ترى، فإذا عدنا محلّين لم نجد شيئا. فلما عدنا كان كما قال، فبان لى من معنى الآية ما لم يكن عندى بالمشاهدة.
وينثر ابن رشيد فى رحلته، بعض أبيات له، تدل على أنه كان ينظم الشعر، وهو شعر متوسط، أما نثره سواء سجع أو استرسل طليقا من السجع نثر جيد. والرحلة تكتظ بمعارف كثيرة عن الحركة العلمية فى البلدان العربية وشيوخها لزمنه.
(ج) رحلة (١) العبدرى
هو أبو عبد الله بن محمد العبدرى، أصله من منطقة حاحة إحدى مناطق إقليم مراكش، وهى منطقة وعرة تمتلئ-كما يقول الحسن الوزان-بالجبال العالية الصخرية وبالغابات والأودية المائية الصغيرة. ويبدو أنه نشأ فى حاحة وأكمل تعلمه على شيوخ مراكش، وكان أديبا يحسن نظم الشعر وصوغ النثر، ولم يلتزم السجع دائما فى رحلته، وقد بدأها-كما يظن- فى العقد الثالث من حياته سنة ٦٨٨ هـ/١٢٩٠ م وقد استغرقت منه عامين طويلين، وبدأها من حاحة موليا وجهه نحو شمالى الجزائر حتى مدينة مليانة، ومرّ منها بالمدن فى الشمال حتى تونس، ومنها إلى طرابلس فالقطر المصرى بادئا منه بالإسكندرية وأعجبته فأقام بها فترة، ثم تركها إلى القاهرة وحمل عليها، كما حمل على طرابلس من قبل، واتجه منها إلى العقبة فإقليم الحجاز حيث أدّى فريضة الحج، وزار قبر الرسول العطر، وعاد من طريق فلسطين إلى مصر فالبلدان الإفريقية حتى بلدته، ونراه أحيانا فى وصفه للبلدان يبالغ فى الثناء تارة، وتارة ثانية يبالغ فى الذم والقدح، وقد أضفى ثناءه على مدينة مليانة فى الجزائر، وفيها يقول:
«مدينة مجموعة مختصرة، وليست بذلك عن أمهات المدن مقصّرة، أشرفت من كثب على وادى (نهر) شلف، واستشرفت نسيم طرفها من شرف، فى روضة جمة الأزهار والطّرف. فرعت (امتدت) فى سفح جبل حمى حماها أن يرام، وشرعت فى أصل نهر يشفى المقيم من الهيام، شاق منظرا، وراق مخبرا، وشفى الظمأ موردا ومصدرا، يشتهى الناظر إليه وهو ريان الشروع، ويقول: لورشّ به-لأفاق-المصروع، وكأن حصباءه
(١) انظر فى رحلة العبدرى كتاب الوافى ٢/ ٣٩٣ وقد نشر الرحلة وحققها الأستاذ محمد الفاسى وهى مطبوعة فى الرباط.