للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترجّ، وفتقت فأرات (١) النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، ونفقت (٢) سوق الأنس، وقام منادى الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء النّدّ (٣) فبحياتى لما حضرت لنحصل بك فى جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد».

والرسالة مغموسة غمسا فى صور وأخيلة متعاقبة، وكأنما ترك الصاحب نفسه على سجيتها، فلم يعمد فيها إلى سجع، ولعل فى ذلك ما يرد على من اتهموه بتكلفه للسجع وغرامه به، حتى لو كلفه ذلك خللا فى الملك والدولة أو لو كلفه أهوالا ثقالا ما بعدها أهوال، فقد كان يلجأ إلى الازدواج أحيانا، بل ربما تخفف من الازدواج والسجع جميعا كما فى هذه الرسالة. وله رسائل ملؤها المزاح والدعابة. وكانت بديهته حاضرة، مما جعله يمتاز بحسن الأجوبة وسرعتها فمن ذلك أن ضرّابين للنقود من دار الضّرب رفعوا إليه رقعة فى مظلمة ووقعوا عليها باسمهم: الضّرّابين، فوقّع تحتها «فى حديد بارد». واستمع إلى ابن سمعون الواعظ ببغداد فى أثناء درس له فسأله متخابثا عن قد سكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم، يظن أنه بذلك يقطعه عن الكلام، ولم ينقطع فلما سكت قال له الصاحب: «هذا الذى تقوله بعد التوهم، وإنما سألتك قبله»! .

٥ - بديع (٤) الزمان ومقاماته

هو أحمد بن الحسين ولد سنة ٣٥٨ بهمذان، ولذلك يقال له الهمذانى، ولقّبه معاصروه باسم بديع الزمان إعجابا بأدبه. وهو من أسرة عربية، نزلت مسقط رأسه، وهى أسرة تغلبية مضرية، ومن قوله فى بعض رسائله: «همذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد» فهو ليس فارسى الأصل، بل هو عربى مضرى تغلبى. وعنى به أبوه، فأخذه بالعلم والتعلم منذ نعومة أظفاره، وألحقه بحلقات العلماء، وخاصة حلقة أبى الحسين أحمد بن فارس اللغوى المشهور صاحب كتاب المجمل، وله يقول فى بعض رسائله متلطفا:


(١) فأرة المسك: وعاؤه.
(٢) نفقت: راجت.
(٣) الند: الطيب.
(٤) انظر فى بديع الزمان وترجمته وأخباره اليتيمة ٤/ ٢٥٦ ومعجم الأدباء ٢/ ١٦١ ودمية القصر ٢/ ٣٤٦ وابن خلكان ١/ ١٢٧ ورسائله مطبوعة قديما ببيروت ومقاماته طبعت مرارا، وديوانه مطبوع بمصر قديما وانظر فيه كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» ص ٢٣٨ وأيضا كتابنا (المقامة) طبع دار المعارف ص ١٣ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>