رأينا فى كتاب العصر العباسى الأول كيف أن النثر العربى تطوّر تطورا خطيرا، فقد حملت أوانيه الثقافات الأجنبية المختلفة من يونانية وفارسية وهندية وسريانية حملا لا يزال يروع الباحثين، وكأنما كان فى اللغة العربية طاقات مستكنّة لكى تحمل فى يسر هذه الثقافات ولا تتأبّى عليها، واشتهر كثيرون بالنهوض بهذا العمل وفى مقدمتهم ابن المقفع. ثم رعت الدولة الترجمة، وأنفقت عليها إنفاقات هائلة، بحيث كاد أن لا يبقى كتاب نفيس فى الثقافات المذكورة إلا نقل إلى العربية وبحيث يمكن أن يسمّى العصر العباسى الأول عصر النقل والترجمة. وظلت من ذلك بقايا إلى هذا العصر، وتحول المترجمون فيه يعيدون النظر فى كثير مما ترجم فى العصر الماضى، وكانت عامة الترجمة فيه حرفية، فالفقرة من الفقر فى كتاب تترجم حرفيّا، اللفظة مقابل اللفظة، مما قد يصيب الكلام بشئ من الالتواء أو التعثر أو الاضطراب فى التعبير. وكان ذلك دافعا للمترجمين أن يعيدوا النظر فى كثير مما ترجم وأن يترجموه ثانية على أساس جديد، هو ترجمة المعانى لا الترجمة الحرفية، بمعنى أن المترجم يقرأ الفقرة وينقل معناها كما ارتسم فى ذهنه دون التقيد الحرفى حتى يطرّد نسق الكلام ولا يظهر فيه شئ من الاختلال الذى كثيرا ما تدفع إليه الترجمة الحرفية. وحقّا من المترجمين الأوائل من استطاعوا أن ينفذوا إلى هذه الطريقة الثانية للترجمة مبكرين، على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع وترجماته، ولكنه كان يعدّ شاذّا وعدّ فى الوقت نفسه من بلغاء العربية، لأننا قلما نحس عنده نشازا أو التواء أو انحرافا من شأنه إفساد التعبير،