للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثّغاة (التافهون) علىّ بسبب ذلك المزاح، واستنسر البغاث إلىّ وهزّ الجناح. . وأعرضت عن أشياء لو شئت قلتها، ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا، وأنا أحرص على صحبته وممن يرعاها حق رعايتها. . فأحب أن يحسن الظن بى، والذكر عنى، فإن فعل ذلك فعل الأشكل (الأشبه) به، والأليق بأدبه، والأولى بجميل مذهبه. وقد أطفأت هذه المعاتبة نارا مؤصدة (مطبقة) وبرّدت من صدرى غلّة موقدة».

والرسالة عتاب لشخص لا يعرف متى يمازحه، إذ يمازحه بما قد يقبله منه فى الخلوة، أما أمام الناس فإن المزاح يصبح كأنه هزء به وسخرية منه، ولذلك يؤلمه، ومع ذلك يقول إنه يحتمله رجاء أن يكف عنه ولكنه لا يكف، حتى تعاظم من لا وزن لهم عليه، وحتى «استنسر البغاث» وهو مثل يضرب لمن استشعر العزة بعد الهوان، إذ البغاث من أضأل الطير فشعر كأنه أصبح نسرا.

وأضاف محمد بن عيسى إلى ذلك إضافة بديعة، إذ قال إنه استنسر وهز الجناح كناية عن شعوره الشديد بالعزة إزاءه. ومع ذلك كله يصفح محمد بن عيسى عن هذا الصديق الثقيل، إذ التزم له التجلة أمام الناس. والرسالة تتخفف من السجع أحيانا، مما يدل على أن محمد بن عيسى لم يكن يتكلفه دائما، وكأنما كان يجرى على لسانه عفوا. وله من رسالة فى الشكر لشخصية مهمة يثنى على حضرتها قائلا:

«إن غرس فضلها السابق إليه أثمر عنده شكرا وحمدا، وأنبت لديه محبة وودا، وإنه من موالاتها لعلى صراط مستقيم، ومن الإقرار بفضلها لعلى منهج قويم، ومن الدعاء لها لعلى حال مقيم، وكيف لا يكون كذلك وقد صيّره سالف إحسانها فى الرّقّ، وملكه فارط امتنانها ملك المستحق، فهو لا يفتر من جميل شكرها لسانا، ولا يخلى من خلوص ودّها جنانا».

والفصل-على شاكلة فصليه السالفين-فى دقة اختياره للألفاظ والأسجاع حتى تنزلق عن الألسنة فى يسر، وحتى يحسن وقعها فى الأسماع، وهو لذلك لا يزال يلائم بين اللفظ واللفظ، وبين المعنى والمعنى وبين الصورة والصورة، حتى يلذ الآذان والألسنة والأذهان حين تقرؤه أو تصغى إليه. وحرى بنا أن نتوقف قليلا بإزاء الكاتبين الصقليين: ابن الصباغ وابن ظفر.

ابن (١) الصبّاغ الصقلى

هو أبو عبد الله محمد بن الصباغ، من أدباء صقلية وكتابها البارعين، تألق اسمه فيها لأواخر عهد بنى أبى الحسين الكلبيين بالقرن الخامس الهجرى، وحين اضطربت صقلية بعدهم واستقلّ


(١) انظر فى ترجمة ابن الصباغ الذخيرة ٤/ ٣٠٨ ولعله هو نفسه الذى نقل ترجمته العماد عن الدرة الخطيرة لابن القطاع ص ٨٣ باسم أبى عبد الله محمد بن على بن الصباغ الكاتب وقال عنه: كان فى عهد ابن رشيق المتوفى سنة ٤٥٦ وقال كانت بينهما مراسلات.

<<  <  ج: ص:  >  >>