وبهذا البيان الخلاب لا نزال نقرأ فى رسائل ابن الدباغ معجبين، ونأسى لمصيره، وكان حريا بأحد الثلاثة: المقتدر بن هود والمعتمد بن عباد والمتوكل بن الأفطس أن يرفق به ويعرف له فضله ومنزلته الأدبية الرفيعة، فيقيله من أوضار تشاؤمه وعثرات بؤسه بما يسدل عليه من صفو الحياة ورخاء العيش مما يبّدل قنوطه من معاصريه رجاء ويأسه منهم أملا وخوفه ثقة واطمئنانا، غير أن أحدا منهم لم يحاول إنقاذه من محنته، بل جميعهم تركوه يتجرع غصص الضّيم والحرمان فى غير شفقة ولا رأفة.
أبو (١) عبد الرحمن بن طاهر
هو أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن طاهر، من بيت ثراء وشرف وفضل بمدينة مرسية فى شرقى الأندلس، وهو بيت كان ينتمى إلى قبيلة قيس بن عيلان فى الجزيرة، وكان يعتز بقيسيته وعروبته. ولما انتثرت الأندلس وتوزعت بلدانها بأيدى أمراء الطوائف دعا أبوه أحمد بن طاهر لنفسه فى بلدته مرسية، فاجتمع أهلها على طاعته، وازدهر إقليم أهلها بجميل سيرته. وكان قد رزق بابنه أبى عبد الرحمن محمد حوالى سنة ٤٢٠ للهجرة، وشبّ فأعان أباه فى حكمه إلى أن توفى سنة ٤٥٥ فخلفه على مرسية، وانتهج سيرته، فاستقام له حكم أهلها، وكأنهم لم يفقدوا أباه. وكان من أهل العلم والأدب البارع إذ عنى أبوه بتربيته، وكان يتقدم أمراء الطوائف فى بلاغة الكتابة، وكانت رسائله متداولة لما تتميز به من حسن الأداء، ولابن بسام تأليف خصها به سماه «سلك الجواهر من ترسل ابن طاهر» وترجم له فى الذخيرة ترجمة ضافية.
وكان ابن طاهر جوادا ممدّحا، ينتجعه الشعراء والأدباء فيجزل لهم العطاء، وانتجعه ابن عمار الذى مرت ترجمته بين الشعراء أيام خموله، فرحّب به وأكرمه، وجزاه على إكرامه وترحيبه جزاء سنمّار، إذ عرف فى مقامه بضيافته ضعف جنده وعورات بلده، فلما تطورت به الظروف، وأصبح وزيرا ومستشارا للمعتمد بن عباد أمير إشبيلية زيّن له الاستيلاء من يد ابن طاهر على مرسية، وما زال يغريه بفتحها وأن ذلك لن يكلفه مئونة كبيرة حتى استجاب وأعدّ له جيشا جرارا لفتحها، وفى طريقه إليها اتخذ قائدا لعسكره عبد الرحمن بن رشيق، ولم يلبث أن انتزعها من يد ابن طاهر سنة ٤٧١ وزجّ به فى سجن
(١) انظر فى ترجمة أبى عبد الرحمن بن طاهر الذخيرة ٣/ ٢٤ - ١٠٣ والقلائد: ٥٨ والمغرب ٢/ ٢٤٧ وبغية الملتمس رقم ٢٣ والمعجب ١٨٠ والحلة السيراء ٢/ ١١٦ والذيل والتكملة للمراكشى ٥/ ٥٩٠ والخريدة ٣/ ٣٦٣ وأعمال الأعلام لابن الخطيب ٢٣٢.