فليست تعقل الدنيا إزاء هذا الفساد الذى يعم كل شئ فى الكون من أحياء وغير أحياء.
وفى الحق أن الفلسفة عمقت تفكيره، وقد جمع إليها شاعرية خصبة وحسّا دقيقا مرهفا.
ابن الهبّاريّة (١)
هو أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح بن الهّباريّة العباسى، نسب إلى هبّار جده لأمه، ولد ونشأ ببغداد، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، وكان خبيث اللسان، فلم يكد يسلم من هجائه أحد، وفيه يقول العماد الأصبهانى: «من شعراء نظام الملك (وزير ألب أرسلان وابنه ملكشاه) غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك فى قالب ابن الحجاج وسلك أسلوبه وفاقه فى الخلاعة والمجون، والنظيف من شعره فى نهاية الحسن» ويقول ابن تغرى بردى:«كان فيه إقدام بالهجو على أرباب المناصب». ومرت بنا فى حديثنا عن الهجاء فى الفصل السابق إشارة إلى قصيدة له فى هجاء أرباب الدولة فى عهد ملكشاه السلجوقى. وحتى راعيه نظام الملك لم يسلم من لسانه، ويقال إنه حين سمع هجاءه له أمر بأن يصرف رسمه أو راتبه مضاعفا. وعدّت تلك منّة من نظام الملك دالة على مكارم أخلاقه وسعة حلمه. وأشعاره مليئة بالهجو إلى حد الإقذاع، حتى ليهجو الإنسانية جميعا قائلا:
خذ جملة البلوى ودع تفصيلها ... ما فى البريّة كلّها إنسان
وجعلته صلته بنظام الملك يقيم بجواره مدة طويلة فى أصبهان عاصمة ألب أرسلان وملكشاه، ويبدو أن مقامه لم يستمر بها طويلا بعد وفاة نظام الملك سنة ٤٨٥. ولم يعد إلى بغداد، بل اتجه إلى كرمان وأقام بها إلى أن توفى سنة ٥٠٤.
ولسنا نريد الحديث عن ابن الهبارية وهجائه ومديحه، وإنما نريد الحديث عن شعره التعليمى فقد نهض بعملين كبيرين فيه: أوّلهما نظمه لقصص كليلة ودمنة، وقد سماه «نتائج الفطنة فى نظم كليلة ودمنة» وهو على غرار نظم أبان من وزن الرجز المزدوج، فكل بيت فيه يتفق شطراهما فى قافية واحدة. وفى فواتحه ما يدل على أنه نظمه فى كرمان، وقد نوه بنظم أبان للقصص، وأبان يتفوق عليه فى جودة شعره وإن كان عمله سقط من يد الزمن إلا ما رواه منه الصولى فى ترجمته له بكتابه الأوراق، ونتائج الفطنة مطبوع فى بومباى من قديم.
(١) انظر فى ترجمة ابن الهبارية وأشعاره كتاب خريدة القصر (قسم العراق) ٢/ ٧٠ وابن خلكان ٤/ ٤٥٣ والنجوم الزاهرة ٥/ ٢١٠ والوافى ١/ ١٣٠ ولسان الميزان ٥/ ٣٦٧ والشذرات ٤/ ٢٤.