مرّ بنا فى العصر العباسى الأول كيف أن الدواوين كانت كثيرة ومتنوعة، فديوان للخراج، وديوان للنفقات وديوان للضياع وديوان للرسائل وديوان للخاتم وديوان للجيش أو دواوين، ودواوين لشرقىّ الدولة وغربيّها، ولكل ولاية ديوان وأحيانا دواوين. وفوق كل هذه الدواوين ديوان الزمام الذى يشرف عليها.
وهذه الصورة العامة للدواوين فى سامرّاء وبغداد كانت تقابلها دواوين أخرى فى حاضرة كل ولاية. وكان لأولياء العهد والوزراء دواوين بدورهم، وكذلك لكبار القواد، وحتى نساء الخلفاء كان لهن دواوين يقوم عليها كتّاب ينظرون فى الدّخل والخرج والنفقات.
وكان ذلك عاملا قويّا فى نشاط الكتابة إذ اشتغل بها كثيرون، وخاصة أنها كانت تعود عليهم برواتب وأرزاق ضخمة. وكان الكاتب فى دواوين الدولة إذا أظهر نبوغا ارتقى سريعا، وما يزال يرتقى حتى يصبح رئيس مجموعة من الدواوين وقد يصبح وزيرا يدبّر أمور الدولة كلها، فإن فاتته الوزارة أصبح واليا لمدينة كبيرة مثل إبراهيم بن المدبر الكاتب إذ ولى-فيما ولى-البصرة. وكثير من الولاة كانوا يتقنون الكتابة مثل محمد بن عبد الله بن طاهر وأخيه عبيد الله حاكمى بغداد بالتعاقب.
وكانت الدواوين فى سامرّاء وبغداد لذلك أشبه بمدرسة فنية كبيرة. يفد عليها الشباب، ويختبرون اختبارا دقيقا، فمن نجح فى الاختبار وظّف فيها، ولزم غيره من الكتاب القدماء وعمل بين أيديهم. ويدبّج بعض الرسائل، فإذا نالت رسالة حظوة من رئيس الديوان تمّ له سعده. وربما ألحقوهم ببعض الولاة أو العمال، وقد يقفزون بهم قفزا إلى القيام على أحد الدواوين. ولا ريب فى أن ذلك جعل التنافس على النهوض بالكتابة فيها يبلغ الذروة. وهو تنافس دفع إلى التثقف