للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الريف) دفعا ويستحثك نحوها وكزا (ضربا) وصفعا، فإذا صرت إليها عبث أكّاروها (فلاّحوها) بك، وتسلّط نواطيرها (متعهدو بساتينها) عليك بما قدّمت يداك، لتذوق وبال أمرك، وترى ميزان قدرك».

وبدون ريب بلغ ابن زيدون فى هذه الرسالة الذروة بالسخرية من ابن عبدوس، وقد أصبح فى يده كلعبة تارة يعلو به فيرفعه إلى السموات العليا فى القوة والسلطان والعلوم والفلسفة والبيان والبلاغة وتارة يسقط به فيهوى من حالق إلى الحضيض والدرك الأسفل. وهو فى كل ذلك يزدرى عقله وعلمه وأدبه وفكره وهيئته وكل ما يتصل به.

ويسوق ابن زيدون للإغراق فى السخرية به أعلام التاريخ القديم والإسلامى وأعلام الفلسفة والعلوم والبيان العربى، وكأنه هو الذى نفث فيهم كل ما امتازوا به. واستكثر فى الرسالة من الأمثال ومن نثر الأشعار، وهو لا يطرف فيها بذلك فقط، بل يطرف أيضا بالألفاظ الجارحة الموجعة الملأى بسموم التهكم.

(ب) الرسالة (١) الجدية

كتب ابن زيدون هذه الرسالة يستعطف بها أبا الحزم جهورا أمير قرطبة حين ألقى به فى غياهب السجن ووراء قضبانه، لما قيل من نهبه عقارا لبعض مواليه، وقيل-وهو الأصح-بل لما دسّ عليه عند جهور من اشتراكه ضده فى مؤامرة فاشلة، وظل يدبج فيه القصائد ويرسل إليه الشفعاء، وهو لا يعفو عنه ولا يصفح، فدبّج له هذه الرسالة الرائعة مستهلا لها بقوله:

«يا مولاى وسيدى الذى ودادى له، واعتمادى عليه، واعتدادى به، وامتدادى منه، أبقاك الله ماضى حدّ العزم، ثابت عهد النعمة، إن سلبتنى-أعزّك الله-لباس إنعامك، وعطّلتنى من حلى إيناسك، وأظماتنى إلى برود (بارد) إسعافك، ونفضت بى كفّ حياطتك (رعايتك) وغضضت عنى طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلى لك، وسمع الأصمّ ثنائى عليك، وأحسّ الجماد باستنادى إليك، فلا غرو قد يغصّ بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه. . وإنى لأتجلّد وأرى الشّامتين أنى لريب الدّهر لا أتضعضع، فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين عضّه إكليله، ومشرفىّ ألصقه بالأرض صاقله، وسمهرىّ (٢) عرضه على النار مثقّفه. .


(١) انظر فى هذه الرسالة وتعليقنا عليها كتابنا عن ابن زيدون، وراجع شرح الصفدى لها فى كتابه: «تمام المتون شرح رسالة ابن زيدون».
(٢) المشرفىّ: السيف. السمهرىّ: الرمح.

<<  <  ج: ص:  >  >>