الشعراء توزّعوا بين من يؤثرون الجزالة والفخامة وقوة البناء وضخامته مثل مسلم بن الوليد، ومن يؤثرون الليونة والسهولة مثل أبى العتاهية الذى عمّم ذلك فى الشعر الرسمى: شعر المديح، والشعر الشخصى: شعر الخمر والغزل، وشعر الزهد والوعظ، وكان معاصره أبو نواس يحتفظ بكل ما يمكن من جزالة فى الشعر الرسمى، وفى بعض شعره الشخصى، وكثيرا ما يعمد فى الضرب الأخير إلى السهولة المفرطة.
على أن الشعراء سرعان ما انصرفوا عن طريق أبى العتاهية مؤثرين طريق بشار وما انتهى إليه هذا الطريق عند مسلم من المتانة وقوة البناء والرصانة، وخلفه أبو تمام فأوفى بهذا الأسلوب الجزل الرصين على غايته من الفخامة والروعة. وبذلك ردّ الأسلوب المولد إلى قوة السبك وضخامة البناء. وحقّا جمد بعض الشعراء وأسرفوا فى الاقتداء بأساليب القدماء من الرجاز وأضرابهم، ولكنهم سقطوا صرعى فى الميدان الفنى، إذ ازورّ عنهم جمهور الشعراء منضوين تحت لواء بشار ومسلم وأبى تمام. أو تحت لواء أبى العتاهية وأبى نواس، بحيث ينتخب الشاعر أنصع الألفاظ وأجزلها وأرشقها وأعذبها مكوّنا أصداف شعره وجواهره المتألقة.
[٢ - طوابع عقلية دقيقة]
رأينا فى الفصل السابق كيف رقيت الحياة العقلية فى هذا العصر رقيّا بعيدا.
وهو رقى هيأت له الكتب الكثيرة التى ترجمت عن الهنود والفرس واليونان، كما هيأت له المحاورات والمناظرات بين أصحاب الملل والنحل والأهواء، وهى مناظرات ومحاورات دفعت الشعراء كما دفعت غيرهم إلى التفكير المتصل، الذى ما بنى صاحبه يحاور ويناظر، متناولا كل شئ، حتى يصقل عقله، وحتى يبلغ أقصى ما يريد من العلم والمعرفة. وما لم يعرفه ولم يعلمه سأل عنه العلماء، ليصوروه له، وليزيلوا الشبهة فيه عن نفسه، وفى ذلك يقول بشار (١):