للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما لم يكن يتهيأ لأصحابه أنفسهم، فقد جمعوه له وكشفوا مادته من جميع أطرافها، وأخذت تونق وتزدهر من جديد، وهو ازدهار نفذ منه العباسيون إلى أسلوب لهم حديث عرف باسم أسلوب المولدين، وهو أسلوب قام على عتاد من القديم وعدّة من الذوق الحضرى الجديد، أسلوب يحافظ على مادة اللغة ومقوماتها التصريفية والنحوية ويلائم بينها وبين حياة العباسيين المتحضرة بحيث تنفى عنه ألفاظ العامة المبتذلة كما تنفى عنه ألفاظ البدو الحوشيّة. وكان من الشعراء نفر يسرفون على أنفسهم فى النهج على أساليب الرّجّاز المحشوة بأوابد الألفاظ، ولكنهم كانوا يعدون نابين على ذوق العصر، ومن خير من يمثل ذلك ابن مناذر، وقد تعرّض له أبو العتاهية يوما قائلا: «إن كنت أردت بشعرك العجّاج ورؤبة فما صنعت شيئا، وإن كنت أردت أهل زمانك فما أخذت مآخذنا (١)». وأبو العتاهية إنما يشير إلى ما حدث لأساليب اللغة فى عصره، فقد تناولها فى الحاضرة صنّاع مهرة لم يلبثوا أن اشتقوا لهم منها أسلوبا متميزا يبتعد عن خشونة البدو وألفاظهم الكزّة.

وليس ذلك فحسب فإنهم أشاعوا فى هذا الأسلوب الألفاظ المنتخبة مع العذوبة والرشاقة حينا والجزالة والرصانة حينا آخر، يهديهم فى ذلك ذوقهم المتحضر الدّمث الذى ينفر من كل لفظة غريبة وكلمة وعرة.

وعلى هذا النحو دفع التحضر شعراء العصر العباسى الأول إلى استحداث أسلوب مولّد جديد، وهو أسلوب كان يعتمد على الألفاظ الواسطة بين لغة البدو الزاخرة بالكلمات الوحشية ولغة العامة الزاخرة بالكلمات المبتذلة، أسلوب وسط بين الغرابة والابتذال، تختار الكلمات فيه، وكأنما هى جواهر تختار فى عقود، إذ تحوّل الشعراء إلى ما يشبه الصّاغة، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته فى صياغته وسبكه بما ينتخب من الكلمات التى يحسن وقعها فى السمع والتى تصنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة.

وبشار فى طليعة من أرسوا هذا الأسلوب المولد الجديد، وفيه يقول ابن المعتز:

«كان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب (٢)». وأسلوبه يمتاز بالنصاعة والرصانة والصفاء والرونق. وتلاه جيل من


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ٤/ ٩٠ والموشح ص ٢٩٥.
(٢) ابن المعتز ص ٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>