للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شديدا (١)، ويروى أنه أنشد فى شعر الأعشى الكبير:

وأنكرتنى وما كان الذى نكرت ... من الحوادث إلا الشّيب والصّلعا

فأنكره، وقال: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى، ولم يلبث الرواة أن تحققوا من قوله (٢). وذكر الرواة أنه أنشد خلفا الأحمر قصيدته فى سلم بن قتيبة:

بكّرا صاحبىّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح فى التّبكير

فلاحظ فيها إكثاره من الغريب، وسأله عن سبب ذلك، فقال له: بلغنى أن سلما يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه. وقال له خلف:

لو قلت مكان (إن ذاك النجاح فى التبكير) (بكّرا فالنجاح فى التبكير) كان أحسن. فأجابه بشار: «إننى بنيتها أعرابية وحشية فقلت: (إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بكرا فالنجاح) كان هذا من كلام المولّدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل فى معنى القصيدة، فقام خلف، فقبّل بين عينيه (٣)».

وعلى هذا النحو كان الشاعر العباسى يحوّل إلى نفسه نماذج الشعر القديم بكل خصائصها وكل شاراتها، يعينه فى ذلك اللغويون بما يعرضون عليه منها تجاه سمعه وتحت بصره. وشركهم فى ذلك بعض الشعراء على نحو ما هو معروف عن أبى تمام، ومجموعاته الشعرية التى انتخبها بذوقه من أشعار القدماء والمحدثين، وفى مقدمتها ديوان الحماسة. ولم يكتف اللغويون بما عرضوا من القصيد والرجز، فقد وضعوا للشعراء أقيسة اللغة فى الاشتقاق والتصريف والنحو وموسيقى الشعر وعروضه. وبذلك وضعوا فى أيديهم جميع الآلات التى تعينهم لا على التثقف بالعربية والتدرب عليها فحسب، بل أيضا على أن يتقنوا التعبير بها والتصرف فيها حسب حاجاتهم الوجدانية والعقلية والحضارية.

ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن اللغويين هيئوا للشاعر العباسى من العلم بالشعر القديم


(١) أغانى ٣/ ١٧٤ وانظر ابن المعتز ص ٢٥ والموشح ص ٣٦٦.
(٢) أغانى ٣/ ١٤٣.
(٣) أغانى ٣/ ١٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>