للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبعمائة أرجوزة غير ما كان يحفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والأموييين (١)، وفيه يقول الجاحظ: «ما رأيت أحدا كان أعلم باللغة من أبى نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة لاستكراه (٢)» ويقول أبو عمرو الشّيبانى العالم اللغوى المشهور: «لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرّفث لا حتججنا بشعره، لأنه محكم القول (٣)».

ولم يكن أبو نواس وحده الذى حذق العربية وبرع فيها، فقد كان من سبقوه وعاصروه من الشعراء لا يقلّون عنه براعة وحذقا بأساليبها، ويكفى أن نرجع إلى بشار الفارسى الأصيل زعيم المحدثين فسنراه يعلل لإتقانه العربية بنشأته فى بنى عقيل وتبدّيه أعواما طويلة، يقول: «ولدت ههنا (فى البصرة) ونشأت فى حجور ثمانين شيخا من فصحاء بنى عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت (دخلت البادية) إلى أن أدركت (بلغت الحلم) فمن أين يأتينى الخطأ» (٤). ولم تكن المسألة مسألة خلو كلامه من الخطأ، إنما كانت-فى حقيقتها اكتساب السليقة العربية، حتى غدا كأنه عربى أصيل، مما جعل اللغويين يشيدون به طويلا (٥).

وبشار من خير الأمثلة على مدى استيعاب العباسيين ممن يرجعون إلى أصول غير عربية لصورة الشعر العربى بقصيده ورجزه، وتروى له فى ذلك طرائف كثيرة، منها ما رواه أبو الفرج من أنه استمع إلى عقبة بن رؤبة وهو ينشد عقبة ابن سلم والى البصرة أرجوزة يمدحه بها، فلما فرغ منها قال له: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ، فغضب بشار وقال له: ألى يقال مثل هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك (يريد العجّاج). ومضى إلى منزله فألّف أرجوزة بديعة، وغدا فأنشدها عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة، وهى التى يستهلها بقوله:

يا طلل الحىّ بنات الصّمد ... بالله خبّر كيف كنت بعدى (٦)

فطرب عقبة بن سلم وكأفاه مكافأة كبيرة، وانكسر عقبة بن رؤبة انكسارا


(١) ابن المعتز ص ٢٠١.
(٢) أخبار أبى نواس ص ٦.
(٣) ابن المعتز ص ٢٠٢.
(٤) أغانى (طبع دار الكتب) ٣/ ١٤٩ وما بعدها.
(٥) أغانى ٣/ ١٤٣ وما بعدها.
(٦) ذات الصمد: موضع.

<<  <  ج: ص:  >  >>