تحدثنا فى الفصل الثالث عن كثرة الفرق الكلامية فى هذا العصر، وقلنا إن فرقة المعتزلة كانت أهم هذه الفرق، حتى ليمكن أن نسمى هذا العصر عصر الاعتزال، وقد ملئوا مساجد البصرة بجدالهم العنيف مع أهل النحل والملل المختلفة، واستمالوا كثرة الشباب إلى عقيدتهم بما أوتوا من قوة اللسن والفصاحة وما سلحوا به عقولهم من المنطق والفلسفة، بل لقد استمالوا الخلفاء منذ عصر المأمون، فإذا هو يعلن رأيهم فى أن القرآن مخلوق عقيدة رسمية للدولة. وكانوا-كما أسلفنا-يعلون النظر العقلى إعلاء كبيرا، حتى ليحيط بشر بن المعتمر العقل-كما مرّ بنا فى الفصل الرابع-بهالة قدسية، وهو إعلاء جعلهم يقولون بأن إرادة الإنسان حرة يفعل ما يشاء بمحض اختياره، حتى يوجبوا عليه التكليف وثمرته من الثواب والعقاب حسب عمله، وأدّاهم ذلك إلى البحث فى العلاقة لا بين الله والإنسان فحسب، بل أيضا بين الله والطبيعة، ففيها علل ثانوية فعّالة تقابل حرية الإرادة عند الإنسان، وإذا كان الله يتصف بالعدل إزاء الإنسان وثوابه وعقابه فإنه يتصف بالحكمة إزاء الطبيعة وكل ما خلقه فيها وبثّه حتى من عناصر الشر. وبلغ من تمجيدهم العقل أن قالوا إن الإنسان يستطيع به حتى لو لم تصله الشرائع أن يعرف أن للعالم إلها واحدا خالقا حكيما، يعرف ذلك عن طريق مصنوعاته، وأفضى بهم ذلك إلى مباحث واسعة فى الطبيعة. وقد نزهوا الله عن التشبيه والزمان والمكان والحركة، وقالوا إن صفاته عين ذاته. وأفاضوا فى هذه المباحث وما يماثلها إفاضة بحيث أصبح لكثير منهم مذاهب اعتزالية متميزة على نحو ما صورنا ذلك فى الفصل الثالث من بعض الوجوه
ولا يكاد يلم القارئ بآرائهم ومذاهبهم فى كتاب مثل كتاب الملل والنحل للشهرستانى حتى يهوله ما امتازت به عقولهم من خصب وامتياز، فقد استطاعوا أن ينفذوا من خلال كل ما قرءوا من ثقافات وفلسفة مترجمة إلى فلسفة إسلامية حقيقية، بحيث لا نغلو إذا قلنا إنهم فلاسفة العرب الأولون، إذ لم يقفوا بمباحثهم عند العقيدة