دينار أنفقها كلها فى سبيل الخير، وأصابت أهل مدينته: فاس مجاعة وكان عنده ألف وسق (حمل بعير) من تمر فباعه كله للمحتاجين الضعاف بوثائق وأخرهم بالثمن إلى أجل، فلمّا حل الأجل استدعاهم إلى منزله، فرمى بالوثائق جميعا فى الماء، وقال لهم: أنتم منها الآن فى حلّ، فإنى ما بعت لكم ولا أعطيتكم إلا مال الله تعالى. وينتعش الزهد فى عصر المرابطين، ونشعر إزاء كثيرين من زهاد هذا العصر أنهم كانوا مقدمات لانتشار نزعة التصوف فى المغرب الأقصى مثل أبى جبل المتوفى سنة ٥٠٣ هـ/١١١٠ م وكان كثير السياحة فى الأرض. ويتكاثر الزهاد فى عصر الموحدين مثل ابن حرزهم المتوفى سنة ٥٥٩ هـ وأبى عبد الله السلالجى الأصولى المتوفى سنة ٥٦٤ هـ/١١٦٨ م ومثل يسكر الغفجومى المتوفى سنة ٥٩٨ وكان ورعا فاضلا ومثل أبى عبد الله المعروف بابن تخميست المتوفى سنة ٦٠٨ هـ/١٢١١ م وكان كثير الورع شديد الانقباض عن الناس. ويكتظ كتاب التشوف إلى معرفة رجال التصوف لابن الزيات يوسف بن يحيى المتوفى سنة ٦٢٨ هـ/١٢٣٠ م بكثيرين من الزهاد، ألفه سنة ٦١٧ هـ/١٢٢٠ م وهو يشتمل على مائتين وسبع وسبعين ترجمة أكثرهم من أهل مراكش، غير أنه لم يترك بلدا فى المغرب الأقصى إلا ذكر منها رجالا، ويسميهم فى مقدمته صلحاء، وهم فى جمهورهم زهاد ونساك المغرب الأقصى حتى زمنه. وحرى بنا أن نذكر أن الشعراء أخذوا يفردون للزهد بابا فى دواوينهم على نحو ما نجد عند أبى الربيع الموحدى. وكما يقفنا كتاب التشوف على الزهاد فى عصر الموحدين نجد عبد الحق بن إسماعيل يؤلف فى العهد المرينى بأخرة من القرن السابع كتابا عن صلحاء أو زهاد الريف، وفى الجزء الثانى من كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى للأستاذ محمد بن تاويت تحليل له، وهو يرمز إلى اطراد الزهد فى عصر المرينيين، وظل مطردا فى عصر السعديين ويذكر الأستاذ كنون منهم الهبطى الطنجى عبد الله بن محمد المتوفى سنة ٩٦٣ هـ/١٥٥٦ م وينقل عن الدوحة أنه كان آية من آيات الله تعالى فى الزهد واتباع السنة والانزواء عن الدنيا وتعليم العلم، ومثله ابن خجو المتوفى سنة ٩٥٦ هـ/١٥٤٩ م ويظل للزهد رجاله المشهورون فى عصر العلويين.
[(ب) المتصوفة]
من قديم أخذ كثيرون من زهاد الأمة وأتقيائها يبالغون فى نسكهم فارضين على أنفسهم تلاوة القرآن وذكر الله وتسبيحه، كما فرضوا على أنفسهم المبالغة فى التوكل على الله والثقة به، ثقة تملأ النفس طمأنينة. ومع مرور الزمن أخذ كثيرون من هؤلاء الواثقين المتوكلين يهملون أمور الدنيا ومعاشهم، فهم لا يهتمون بكسب القوت، لأن السعى له يفضى إلى فقدان التوكل والثقة فى الله، ومع الزمن أخذوا ينبذون طيبات الدنيا ومباهجها مرددين قول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا (جائعة) وتروح بطانا (ممتلئة)». وأخذ هذا التعمق فى التوكل والثقة بالله يتحول تدريجا إلى نزعة التصوف،