ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل أوضح الدلالة على أن رواة لا يحصيهم العد حملوا الشعر الجاهلى إلى عصور التدوين، فقد حافظت القبائل عليه كما حافظ كثير من الأفراد وخاصة الشعراء والرواة، وبذلك أسلموه للأجيال التالية، وإن كان قد شابه شئ من الانتحال والوضع على نحو ما سنعرض لذلك فى غير هذا الموضع، ومن غير شك سقط منه كثير فى أثناء اجتيازه هذا الطريق الزمنى الطويل، يقول ابن سلام: «لما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير (١)».
[٢ - رواة محترفون]
ونحن لا نصل إلى نهاية العصر الإسلامى ومطلع العصر العباسى حتى تنشأ طبقة من الرواة المحترفين الذين يتخذون رواية الشعر الجاهلى عملا أساسيا لهم، وتختلط فى هذه الطبقة أسماء عرب وموال، وأسماء قرّاء للقرآن الكريم وغير قراء، وهم جميعا حضريون، عاشوا غالبا فى البصرة والكوفة. ولم يكونوا يقفون عند رواية الشعر القديم مجردة، بل كانوا يضيفون إليها كثيرا من الأخبار عن الجاهلية وأيامها، وكانوا يتخذون لأنفسهم حلقات فى المسجد الجامع يحاضرون فيها الطلاب وفى أثناء ذلك يشرحون لهم بعض الألفاظ الغريبة، أو يفسرون لهم ظروف النص التاريخية.
وأهم هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء وحماد الراوية وخلف الأحمر ومحمد ابن السائب الكلبى والمفضل الضبى، وقد استقوا روايتهم من القبائل والأعراب البدو. وكان بعضهم يرحل إلى نجد أحيانا ليستقى الأشعار والأخبار الجاهلية من ينابيعها الصحيحة، وكان بين البدو أنفسهم من هاجر إلى الكوفة والبصرة حيث هؤلاء الرواة العلماء ليمدهم بما يريدون. وقد أظهروا فى عملهم مهارة منقطعة النظير، إذ تحولوا يجمعون المادة الجاهلية جميعها. وكان من أهم الأسباب فى ذلك تفسير