للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألفاظ القرآن الكريم، فقد جرت عادة المفسرين منذ ابن عباس على الاستشهاد بالشعر الجاهلى فى شرح ألفاظ الذكر الحكيم، وأيضا فقد انبرت جماعات تحاول وضع قواعد العربية وجمع ألفاظها، واعتمدت فى ذلك اعتمادا شديدا على الشعر الجاهلى فهو مادة اللغة ومادة قواعدها وقوانينها التى ينبغى أن تتبع. على أن هاتين الغايتين سرعان ما انفصلتا عن عمل الرواة، وأصبحوا يقصدون لجمع هذا الشعر فى ذاته ومن أجل نفسه، وقد حملته إليهم الموجة الحادة من روايته فى أثناء العصر الإسلامى، ومن المهم أن نعرف أنهم قلما يذكرون من حملوا عنهم هذا الشعر، فهم يغفلون أسانيدهم إلا قليلا (١).

ولا نكاد نمضى فى العصر العباسى حتى يكوّن هؤلاء الرواة مدرستين متقابلتين:

مدرسة فى الكوفة ومدرسة فى البصرة، وعرف الأولون بأنهم لا يتشددون فى روايتهم تشدد الأخيرين، ومن ثم تضخمت رواياتهم ودخلها موضوع ومنتحل كثير، ولعل من الطريف أن نعرف أن الكوفة عرفت فى الحديث النبوى بالوضع والانتحال أيضا حتى كان مالك بن أنس يسميها دار الضرب يريد أنها تضرب الأحاديث وتصنعها كما تضرب الدراهم والدنانير وتصنع. يقول أبو الطيب اللغوى: «والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بين فى دواوينهم (٢)». وندد بهم البصريون كثيرا، وبادلهم الكوفيون نفس التنديد، فكان كل منهما يشكّك فى الآخر (٣)، ولكن إذا صفينا هذه التشكيكات والتنديدات اتضح لنا أن رواية البصرة فى جملتها أوثق من رواية الكوفة. وليس معنى ذلك أن رواة الكوفة فى الجملة كانوا متهمين بخلاف رواة البصرة، فبين الطرفين جميعا متهمون، وموثّقون أحاطوا روايتهم بسياج من الأمانة والدقة والتحرى.

وربما كان السبب الحقيقى فى تقدم البصرة على الكوفة فى الرواية أن رأس رواتها وهو أبو عمرو بن العلاء كان أمينا، بينما كان رأس رواة الكوفة حمادا، وكان متهما كثير الوضع، لا يوثق بما يرويه. وكان أبو عمرو من مؤسسى المدرسة النحوية فى البصرة، وأحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة الذكر الحكيم، ولد سنة ٧٠ للهجرة، وتوفى سنة ١٥٤ وقيل سنة ١٥٩ «وكان أعلم الناس بالغريب


(١) انظر مصادر الشعر الجاهلى ص ٢٥٥ وما بعدها.
(٢) مراتب النحويين ص ٧٤.
(٣) مصادر الشعر الجاهلى ص ٤٣٤ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>