المهدى طالبا منه الاستسلام والدخول فى الإسلام بينما كان هو يفكر فى منح السودان استقلالا ذاتيا تحت نفوذ الحكم الإنجليزى، وبدا أنه من غير الممكن الاتفاق بين الرجلين، ونشبت مناوشات فى الشرق عطلت الطريق إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر وأرسلت إنجلترا حملة بقيادة جراهام لم يكتب لها النجاح، وسقطت مدينة بربر فى أيدى الأنصار أو المهديين، وأرسلت إنجلترا حملة بقيادة ولسلى وتجمعت قوة مصرية إنجليزية فى أسوان وحلفا وأخذت طريقها فى النيل وهزمت بعض قوات المهدى فى المراكز الإمامية، وأخذ المهدى يعدّ جيشه للاستيلاء على الخرطوم، وشاعره الشيخ محمد عمر البناء ينشده قصيدته:
الحرب صبر واللقاء ثبات ... والموت فى شأن الإله حياة
وتجمع أتباعه جنوبى طابية أم درمان فى أواخر أكتوبر سنة ١٨٨٤ للميلاد ولم يسرع المهدى فى فتح الخرطوم ورأى حصارها حتى تستسلم حقنا للدماء. وبلغ المهدى أن الحملة المصرية الإنجليزية وصلت المتمة فأمر بالهجوم على الخرطوم فى السادس والعشرين من يناير قبل وصولها، ودخلها الأنصار من ثغرة فى طرف الاستحكامات على النيل الأبيض وفتكوا بالحامية، وقتل غوردون فى قصره. ودان للمهدى السودان بجميع أرجائه، وانتقل بمعسكره إلى أم درمان وأذعنت له دنقلة وأخذت الحاميات المصرية تستسلم وأعلن الإنجليز إخلاء السودان من جنودهم. وما وافى اليوم الرابع من رمضان سنة ١٣٠٢ هـ/الخامس عشر من يونية سنة ١٨٨٥ م حتى أصابت المهدى حمى التيفوس ولم تمهله إذ توفى بعد أسبوع. وأثرت له تعاليم من شأنها أن تجعل لدعوته أسسا واضحة سنتحدث عنها فى الفصل المقبل وأثرت عنه بعض مواعظ مثل قوله:«إذا دخلتم فى الصلاة فادخلوها بالحضور والخشوع والخضوع والتذلل والابتهال والانكسار وانسكاب الدموع إن استطعتم مع توجه القلب إلى الله وقول لا عيش إلا فى دارك ولا نعيم إلا فى لقائك».
(ب) عبد الله التعايشى (١) خليفة المهدى
استخلف المهدى-وهو يحتضر-عبد الله التعايشى يده المنى فى دعوته، ونقل عاصمته إلى أم درمان: قلعة الخرطوم على الضفة اليسرى، وكان قد هاجر إلى المهدى مبكرا وهو لا يزال فى جزيرة أبا وبايعه، وأخذ المهدى يعتمد عليه فى الإدارة والتنفيذ، فطبيعى أن يعهد إليه بخلافته، وكان عماده على أهل الغرب وخاصة على قبيلته البقارة الذين نقلهم إلى أم درمان، ومنهم ومن الجعليين نظم قوته العسكرية. وجعل فى أول الأمر شئون الحكم والإدارة فى أيدى أسرة المهدى وسموّ الأشراف، وندب التعايشى ستة عشر قاضيا للحكم بين الناس
(١) انظر فى التعايشى وخلافته للمهدى كتاب السودان عبر القرون والسودان فى قرن للدكتور مكى شبيكة وتاريخ السودان القديم والحديث لنعوم شقير ومصر والسودان فى أوائل عهد الاحتلال لعبد الرحمن الرافعى.