وإنما ذكرنا هذا العهد كاملا لندل على ما أتاح التصوف لأهل السودان من تربية دينية وخلقية قويمة. وحقا لم تكن كل العهود تتشدد هذا التشدد ولكنها على كل حال كانت تلزم مريديها بسلوك دينى قويم فضلا عن الأوراد والأذكار كما كانت تلزمهم بسلوك خلقى واجتماعى سديد فى العلاقات والمعاملات. وتسربت على ألسنة بعض شيوخ التصوف بعض ما كان يردده متصوفة بعض البلدان الإسلامية من مثل القطب والأوتاد والنجباء والنقباء، وأيضا عن الولاية وكرامات الأولياء من المتصوفة، ويحكى ود ضيف الله عن الشيخ إدريس ود الأرباب أنه قال:«درجات الأولياء ثلاثة: كبرى ووسطى وصغرى، فالصغرى أن يطيروا فى الهواء ويمشوا على وجه الماء وينطقوا بالمغيبات، والوسطى أن يعطيه الله الدرجة الكونية إذا قال للشئ كن فيكون والكبرى درجة القطبانية». وهى شعوذة، وقد تكون قولا نسب إلى الشيخ ولم يقله. ويردد ود ضيف الله فى حديثه عن الصوفية ذكر الملامتية، وهى فرقة صوفية خراسانية كانت تتستر-فى زعمها-بفعل أشياء تغض من تصوفها وتجعل الناس يتلومونها وينكرون عليها ادعاء التصوف». وهى فرقة ضالة، ومن رحمة الله بأهل السودان أنه لم يظهر بينهم من اعتنق مبادئ هذه الفرقة سوى محمد الهميم الذى زاد فى زواجه بالنساء على المقدار الشرعى المسموح به وهو أربع وليس ذلك فحسب فإنه جمع بين الأختين» وهو لا يعد بذلك من الملامتية إنما يعد خارجا على الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه. وربما كان ما ذكر عن إسماعيل صاحب الربابة من أنه كان من الملامتية صحيحا. على كل حال لم تشع مبادئ هذه الفرقة فى التصوف السودانى وظل تصوفا سنيا منحرفا عن شعوذات المتصوفين المتأخرين، وظل يغذى أهل السودان بتربية دينية وخلقية واجتماعية قويمة.
[(د) طرق صوفية جديدة]
تأخذ دولة الفونج فى الضعف منذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادى ويرى محمد على خديو مصر الاستيلاء على السودان ويرسل إليه حملة سنة ١٢٣٦ هـ/١٨٢٠ م ويستولى عليه كما مر بنا فى الفصل الماضى، ويحول الجند قرية الخرطوم إلى مدينة كبيرة وتصبح عاصمة السودان فى العهد العلوى وعرف محمد على مدى ما للطرق الصوفية من سيطرة على الشعب السودانى وحياته، فشجع الطرق الصوفية بمصر على نزول بعض دعاتها فى السودان، من ذلك تشجيعه أصحاب الطريقة السعدية، وهى من فروع الطريقة الرفاعية البغدادية الناشئة فى القرن السادس الهجرى كما مرّ بنا، وشجع أصحاب الطريقة الرحمانية أو البدوية المنسوبة إلى أحمد البدوى وأصحاب الطريقة البرهانية المنسوبة إلى إبراهيم الدسوقى. واشتهرت بمكة حينئذ طريقة أحمد بن إدريس الفاسى المتوفى سنة ١٨٣٥ وأرسل إلى السودان قبل وفاته أحد أتباعه المسمى محمد عثمان الأمير غنى، وأخذ ينشر طريقة شيخه فى السودان الشمالى من وادى حلفا