فأرسل إلى الخليفة العبيدى القائم يهوّل عليه الأمر ويقول إن أهل صقلية خرجوا عن طاعته، فأرسل إليه سنة ٣٢٥ جندا جديدا يقوده خليل بن إسحاق، واستقبلوه بالشكوى من سياسة سالم وبطشه، يظنون أنه سيرتق الفتق ويصلح الأمر، وسرعان ما خيّب ظنونهم إذ رأوه يهدم أسوار بلرم ويبنى عند المرسى مدينة جديدة لخاصته وجنده وسلاحه ويحصّنها مسمّيا لها باسم:
«الخالصة» وأرهق أهل بلرم إرهاقا شديدا فى بنائها. وثارت عليه جرجنت واستعدت لحربه، فسار إليها سنة ٣٢٦ وحاصرها ثمانية أشهر، ودخل الشتاء ففكّ عنها الحصار. وفى سنة ٣٢٧ ثارت عليه جميع القلاع وسكان مازر، وكاتب أهل جرجنت إمبراطور بيزنطة يستنجدون به، فأمدّهم بالرجال والطعام. واستنجد خليل بالقائم فأمدّه بجيش ضخم أخذ يحاصر به المدن والقلاع سنة ٣٢٨ وحاصر جرجنت وضيّق عليها الخناق حتى سنة ٣٢٩ وفرّ كثير من أهلها إلى بلاد الروم وتنصّر كثير منهم وهو لا يرعوى ولا يزدجر، بل يزداد ظلما وإرهاقا للأرواح إلى درجة لم يسمع بها من وال مسلم لا قبله ولا بعده. وبعد أربعة أعوام عاد إلى إفريقية، فحمل معه جماعة كبيرة من كبراء الجزيرة وأعيانها وعلمائها، وبين أمواج البحر أمر بثقب مراكبهم، فغرقوا جميعا فيه غير مراع عهدا لهم ولا لآبائهم الذين فتحوا صقلية وجاهدوا فى سبيل نشر الإسلام فيها بدمائهم وأرواحهم، وإنها لصفحة سوداء له وعار فى جبينه لا يمكن أن تطمسه الأيام.
[(ب) عهد بنى أبى الحسين الكلبيين]
ولّى الخليفة العبيدى القائم على صقلية بعد خليل بن إسحاق واليا جديدا هو عطاف الأزدى فاستمر فى سياسة الظلم والقمع، وطفح الغضب بالمدن الصقلية وفى مقدمتها بلرم، وثارت جميعا فى سنة ٣٣٥ ثورة كبرى عامة، والتجأ عطاف إلى قلعة الخالصة وامتنع فيها، واجتمع رأى وجوه بلرم وغيرها من المدن على أن يذهب وفد إلى الخليفة الفاطمى الجديد المنصور ويطلب إليه أن يقوم الحكم فى صقلية على أسس راسخة من العدل الذى لا تصلح حياة الشعوب بدونه ومن الحرية فى العقيدة فلا يتعرض حاكم وزبانيته لأهل السنة وأيضا الحرية فى المعاملات قلا يغتصب من أى تاجر ولا من أى شخص ماله. وكان الخليفة المنصور حصيفا، فرأى أن سياسة الخليفتين قبله وما أرسلا لهم من ولاة جبارين كانت سياسة جائرة باطشة إلى أقصى حد، ورأى أن يقنع بالسيادة الاسمية على صقلية إرضاء لأهلها، وعهد بالولاية عليها لقائد من خيرة قواده سنة ٣٣٦ هو الحسن بن على بن أبى الحسين الكلبى. ومنذ هذا التاريخ أصبح حكم صقلية وراثيا فى أسرته، وأخذ يحكمها حكما عادلا رشيدا، وتصادف فى أول حكمه أن غلاما من غلمانه اغتصب إحدى جواريه، فأمر بقتله حتى لا تسوّل لأحد من جنده وغلمانه نفسه بالاعتداء على الحرمات، وأكبر الناس ذلك منه واستبشروا به. ولما رسخت قدمه فى بلرم