الغزل العذرى غزل نقى طاهر ممعن فى النقاء والطهارة، وقد نسب إلى بنى عذرة إحدى قبائل قضاعة التى كانت تنزل فى وادى القرى شمالى الحجاز، لأن شعراءها أكثروا من التغنّى به ونظمه، ويروى أن سائلا سأل رجلا من هذه القبيلة ممن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، ويروى أيضا أن سائلا سأل عروة بن حزام العذرى صاحب عفراء: أصحيح ما يروى عنكم من أنكم أرق الناس قلوبا؟ فأجابه: نعم والله لقد تركت ثلاثين شابّا قد خامرهم الموت وما لهم داء إلا الحب.
ولم تقف موجة الغزل العذرى لهذا العصر عند عذرة وحدها، فقد شاع فى بوادى نجد والحجاز، وخاصة بين بنى عامر، حتى ليصبح ظاهرة عامة تحتاج إلى تفسير، ولا شك فى أن تفسيرها يرجع إلى الإسلام الذى طهر النفوس، وبرّأها من كل إثم. وكانت نفوسا ساذجة لم تعرف الحياة المتحضرة فى مكة والمدينة ولا ما يطوى فيها من لهو وعبث ومن تحلل أحيانا من قوانين الخلق الفاضل على نحو ما مرّ بنا عند الأحوص والعرجى، وهى من أجل ذلك لم تعرف الحب الحضرى المترف ولا الحب الذى تدفع إليه الغرائز، فقد كانت تعصمها بداوتها وتديّنها بالإسلام الحنيف ومثاليته السامية من مثل هذين اللونين من الحب، إنما تعرف الحب العفيف السامى الذى يصلى المحب بناره ويستقر بين أحشائه، حتى ليصبح كأنه محنة أو داء لا يستطيع التخلص منه ولا الانصراف عنه.
وفى كتاب الأغانى من هذا الغزل مادة وفيرة نقرأ فيها لوعة هؤلاء المحبين وظمأهم إلى رؤية معشوقاتهم ظمأ لا يقف عند حد، ظمأ نحس فيه ضربا من التصوف، فالشاعر لا ينى يتغنى بمعشوقته، متذللا متضرعا متوسلا، فهى ملاكه السماوى، وكأنها فعلا وراء السحب، وهو لا يزال يناجيها مناجاة شجية، يصور فيها وجده الذى ليس بعده وجد وعذابه الذى لا يشبهه