عذاب. وتمضى به الأعوام لا ينساها، بل يذكرها فى يقظته ويحلم بها فى نومه، وقد يصبح كهلا أو يصير إلى الشيخوخة، ولكن حبها يظل شابّا فى قلبه، لا يؤثر فيه الزمن ولا يرقى إليه السلوان، حتى ليظل يغشى عليه، بل حتى ليجنّ أحيانا جنونا.
وتقترن بأشعار هذا الغزل أسماء كثيرة، كما يقترن به قصص غزير، وهو قصص فيه بساطة وسذاجة حلوة، قصص يصور لنا حياة هؤلاء العشاق العذريين المتبدين، وقد أحكم الرواة نسجه، إذ مضوا يلفقون فيه عقدة نفسية، خيّلوا لسامعيهم أنها عقدة حقيقية، وذلك أنهم زعموا أنه كان من تقاليد العرب أن لا يزوجوا فتياتهم ممن يتغزلون بهن، لما يجلبن لهن من فضيحة بين العرب.
وهو تقليد لم يعرف فى جاهلية ولا إسلام. وقد مضوا يقولون إن السلطان كان يهدر دماء هؤلاء الغزلين، كأنهم أتوا جناية عظيمة، ولو قتل السلطان فى الغزل لقتل أمثال الأحوص، لا هؤلاء المتعففين أصحاب الحب الطاهر الشريف، وقد حرّم القرآن الكريم والحديث النبوى قتل النفس بغير حق. ولا شك فى أن هذا كله قصص لفقه الرواة كى يوجدوا لهذا الغزل عقدة، بعثت على ما أحسوه عند هؤلاء العشاق من إحساس بالحرمان الشديد. وإذا كان خيال الرواة لعب فى أخبارهم فإنه لعب أيضا فى أسمائهم، إذ اخترع من لدنه لبعض هذه الأخبار وما طوى فيها من أشعار أشخاصا لعلهم لم يوجدوا أبدا.
وارجع إلى أخبار مجنون بنى عامر وأشعاره التى احتلت فى الجزء الثانى من كتاب الأغانى تسعين صحيفة ونيفا فستجد الأصمعى يقول:«رجلان ما عرفا فى الدنيا قط إلا بالاسم: مجنون بنى عامر وابن القرّيّة وإنما وصفهما الرواة»، ويقول ابن الكلبى:«حدّثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بنى أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون، وقال الأشعار التى يرويها الناس له ونسبها إليه».
وقد يكون اسم العاشق من هؤلاء العذريين حقيقيّا، غير أن الرواة أضافوا إليه أشعارا وأخبارا كثيرة، ومن خير من يمثل ذلك قيس بن ذريح، يقول أبو الفرج فى ترجمته لمجنون بنى عامر نقلا عن الجاحظ: «ما ترك الناس شعرا مجهول القاتل فى ليلى إلا