عنى-منذ أواخر عصر بنى أمية-جمهور كبير من العلماء فى البصرة والكوفة بجمع ألفاظ اللغة وأشعار العرب فى الجاهلية والإسلام، وكان من أهم الأسباب فى هذه العناية حاجة الشعوب الأجنبية التى دخلت فى الإسلام إلى تعلم لغة القرآن الكريم، ثم ما كان من شيوع اللحن على ألسنة الموالى المستعربين، وعلى ألسنة بعض العرب أنفسهم بسبب اختلاطهم بالعناصر الأجنبية وما حدث من ضعف سلائقهم بسبب تحضرهم، وكان كثيرون منهم قد نشأوا فى حجور أمهاتهم من الإماء فضعفت عندهم الملكة اللغوية وأخذ اللحن يفشو فى كلامهم. وكانت هناك لهجات كثيرة تتفاوت قربا وبعدا من الفصحى وتدور على ألسنة العرب الذين نزلوا واستوطنوا البلدتين الكبيرتين.
ولكل هذه الأسباب انبرى علماء البصرة والكوفة يجمعون ألفاظ اللغة وأشعارها حتى لا تفنى العربية فى لغات الشعوب المستعربة، وحتى تسلم لها مقوماتها الأصلية، وحتى تنفى عنها وتطرح شوائب اللهجات القبلية. وقد اشترطوا على أنفسهم أن لا يأخذوا اللغة من عربى حضرى وأن يرحلوا فى طلبها إلى باطن الجزيرة حيث ينابيعها الصافية. وكانوا يقصدون بذلك إلى غايتين، أولاهما أن يقوّموا ألسنتهم ويكتسبوا السليقة اللغوية السليمة، وثانيتهما أن يلتقطوا من الأفواه مباشرة مادتهم اللغوية الصحيحة التى يعرضونها على الناشئة وفى حلقات المساجد، ويصوّر أبو نصر الفارابى صنيعهم فى هذا الجانب فيقول: «والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى وعنهم أخذ اللسان العربى من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتّكل فى الغريب وفى الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضرى قط ولا عن سكّان البرارى ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم