وواضح من كل ما سبق أن الشيعة كانت تستغرق أشعارهم فى عصر بنى أمية منازع قوية من حب آل البيت حبّا قد ينتهى إلى الزهد فى الدنيا، ومنازع أخرى من الثورة على بنى أمية، ثورة تطوى فى داخلها رغبة شديدة فى أن تسفك دماؤهم كما سفكت دماء شهدائهم: الحسين وزيد بن على، ومن قبلهما على نفسه. ودائما يبكون هؤلاء الشهداء الذين استأثروا بهم وملكوا عليهم كل شئ، وإنهم ليدلعون فى قلوبهم نارا لا تطفأ من الأسى والحزن العميق. ويحسن بنا أن نقف قليلا عند كثيّر شاعر الكيسانية، والكميت شاعر الزيدية.
كثيّر (١)
هو كثيّر بن عبد الرحمن بن أبى جمعة، شاعر حجازى من خزاعة كان ينزل المدينة كثيرا، وكان قميئا شديد القصر محمّقا وفى الأغانى أخبار كثيرة عن حمقه وعبث الناس به لهذا الحمق. وكان أول ما ساق فيه شعره الغزل، إذ كان راوية لجميل بن معمر العذرى، وهو فى جمهور غزله يترنّم بعزّة بنت حميل الضّمرية، وقد اشتهر بغزله فيها حتى سمّى كثير عزّة، وأروع أشعاره فيها تائيته التى يقول فى تضاعيفها:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
وهو يلتزم فى رويها التاء واللام جميعا، مما يدل من بعض الوجوه على أنه كان متكلفا فى غزله، ويقول ابن سلام: إنه كان يتقول ولم يكن عاشقا ولا صادق الصبابة.
ولا نصل إلى سنة ٦٥ للهجرة ودعوة المختار الثقفى لابن الحنفية، وتكوينه حوله نظرية الكيسانية، حتى يصبح أكبر بوق لهذه النظرية، فهو يعتنقها اعتناقا بكل ما يداخلها من غلو ومن أفكار متطرفة، كفكرة التناسخ وأن
(١) انظر فى ترجمة كثير أغانى (دار الكتب) ٩/ ٢ وما بعدها و ١٢/ ١٧٤ وفى مواضع متفرقة، وابن سلام ص ٤٥٧ وما بعدها والشعر والشعراء ١/ ٤٨٠ والفرق بين الفرق ص ٢٨ والموشح ص ١٤٣ ومعجم الشعراء ص ٢٤٢ والخزانة ٢/ ٣٧٦ ومرآة الجنان ١/ ٢٠٢ ومعاهد التنصيص وابن خلكان والملل والنحل ص ١١١ وحديث الأربعاء ١/ ٣٥٨ وما بعدها. وقد نشر بيريس ديوانه فى الجزائر.