وكان حريّا بصاحب الأغانى أو قل بمعاصريهما أن يحتفظوا للأجيال التالية بهذه الرسائل التى اتصلت بينهما. ولكنهم لم يحتفظوا منها إلا بالقليل مع أنها تعد من طرائف الشعر العباسى. ويقال إنه بلغها أنه واصل جارية من جوارى مقيان وملأت قلبه فتونا. فكتبت إليه غاضبة ساخطة:
يا عالى السّنّ سيّئ الأدب ... شبت وأنت الغلام فى الأدب
ويحك إن القيان كالشّرك ال ... منصوب بين الغرور والعطب
لا يتصدّين للفقير ولا ... يتبعن إلا مواضع الذهب
فالجارية لا تحبه لشخصه وإنما تحبه لذهبه ودنانيره، وكأنها تريد أن تقطع أوصال هذه العلاقة الناشئة. حتى لا يعود إلى التفكير فى تلك الجارية أبدا. ويقال إنها كانت فى الغاية والنهاية من التشيع. فلما هويت سعيدا انتقلت إلى مذهبه من الاخراف عن آل الرسول عليه السلام. وكانت منذ مقتل المتوكل تمر بها أوقات حزينة تشعر فيها بالبؤس فكانت تنفّس عن نفسها بمثل قولها:
إن الزمان بذحل كان يطلبنا ... ما كان أغفلنا عنه وأسهانا (١)
مالى وللدهر قد أصبحت همّته ... ما لى وللدهر، ما للدهر، لا كانا
والبيتان رائعان، ويدلان كما تدل الأبيات السابقة على نبع شعرى غزير.
واختلف فى زمن وفاتها، فقيل سنة ٢٥٨ وقيل سنة ٢٦٠، ويقال إن سعيد بن حميد كان يقول بعد موتها: ما رسائلى المدوّنة عند الناس إلا من إنشائها تجلّة لها ولأدبها وملكتها الشعرية.
[٢ - شعراء اللهو والمجون]
ظل كثيرون من الشعراء ينغمسون فى اللهو والمجون كما انغمس أسلافهم فى العصر الماضى. وكان بعض هذا الانغماس يرجع إلى تحلل فى الأخلاق، وبعضه يرجع إلى الهروب من الحياة والتخفف من أعبائها الثقيلة، وساعد على ذلك اختلال فى الموازين