فهذه العيون مع مرضها وفتورها تدلع فى قلب العاشق قطعا من النار، وتدلع فيه نفس القطع الخدود المشربة بالحمرة، ويشعله إشعالا، زيارة المحبوبة ليلا، وقد همّ السّمّار بالنوم. والقطعة جيدة، ويبدو أنه كان قريبا من نفوس الجوارى فى بلدته، فابن المعتز يروى أنه اجتمع مع بعض رفاقه على الشراب فى بعض المتنزهات ومعهم قينة محسنة طيبة الصوت، وما زالت تغنيهم حتى إذا أنشدها مقطوعة له ختمها بقوله:
وقد آذنونا بوقت الرحيل ... فإن كنت تهويننى فارحلى
يقول ابن المعتز: فلما سمعت الجارية هذا البيت وقعت فى قلبها النيران، وكانت تهواه ويهواها، فقامت وارتحلت معه، لكلفها به. واجتمع مع رفاق آخرين، ودعوا مغنية، فجاءت ومعها رقيبة جميلة، فلما أخذ الشراب منه ومن صحبه طلب رقعة وكتب فيها. موجها حديثه إلى تلك الرقيبة:
فديتك لو أنهم أنصفوك ... لردّوا النواظر عن ناظريك
تردّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلا إليك
وهم جعلوك رقيبا علينا ... فمن ذا يكون رقيبا عليك
ألم يقرءوا-ويحهم-ما يرو ... ن من وحى حسنك فى وجنتيك
وهل فى كلّ ما أسلفنا ما يدل بوضوح على روعة الملكة الشعرية عند الناشئ، وهى ملكة استطاع أن يغذوها بالثقافات المعاصرة له، فإذا هى تصقل وإذا هى تزداد خصبا، وإذا الناشئ لا يزال يطرف سامعيه بخواطر وأخيلة طريفة رائعة.
[٥ - شعراء شعبيون]
لا نغلو إذا قلنا إن الشعر العربى دائما كان موصولا بالشعب، اتصل به فى العصر الجاهلى فقد كان الشاعر وشعره صورة لقبيلته، وظلت له هذه الصلة