حتى إذا خلصت تعود كما بدت ... ومن الخلاص مشقّة وعناء
وهو يقول إن الإنسان ابن الموت فلماذا يفزع من لقائه؟ أهو ابن عاقّ لأبيه؟ ولماذا يتنكر الإنسان لما هو ثابت فى كيانه؟ ولو أنصف الأحياء لعرفوا أنهم مرضى مرضا ثقيلا يشفى بهم على الموت، وكأنهم هم الخليقون بالبكاء لهم، وفيم إذن يبكون على من لبّوا نداء الموت المستكن فيهم؟ إنهم الأموات الحقيقيون الجديرون بالبكاء عليهم. وما النفس إلا شعلة هبطت-كما يقول ابن سينا-من العالم العلوى إلى الجسد أو بعبارة أخرى إلى التراب والماء، وما الموت إلا خلاص لها من هذا الأسر الطويل، ورب خلاص فيه مشقة وعناء. ومضى ابن وهبون بعد هذا العزاء يقول بأن ليس فى الدنيا بقاء وأن الكل إلى فناء، مؤبّنا الأعلم الشنتمرى أستاذه تأبينا رائعا، وهو-بحق-من شعراء الأندلس المبدعين.
[(ب) رثاء الدول]
هذا اللون من رثاء الدول قديم فى الشعر العربى منذ العصر الجاهلى، إذ نجد الأسود بن يعفر يرثى دولة آل محرّق فى الحيرة وحضارتهم وما شادوا من قصور الخورنق والسّدير وسنداد، حيث كانوا يعيشون فى ظل ملك ثابت ونعيم رافه، فزال ذلك كله، وأصبح باليا مندثرا. وحين قضى العباسيون على الدولة الأموية بكاها الشاعر أبو العباس الأعمى المكى طويلا. وسينية البحترى فى إيوان كسرى حين زار أطلاله مشهورة إذ خلبت لبه نقوشه وما على حيطانه من تصاوير، فوصفه وصفا بديعا، وبكى فى تضاعيف وصفه دولة الفرس ومجدها الحضارى. وحين أقنع فقهاء الأندلس يوسف بن تاشفين بعد موقعة الزلاقة المشهورة بأن عليه واجبا أن ينقذ الأندلس من أمراء الطوائف بها المتعادين المتحاربين المفضين فى حياتهم إلى اللهو والقصف متناسين مسئولياتهم إزاء نصارى الشمال لبّاهم مقتنعا بأنه يجب أن تجتمع الأندلس تحت لواء واحد، حتى تستطيع مدنها الصمود أمام نصارى الشمال، بل حتى تذيقهم وبال غاراتهم فى مواقع لا تقل عنفا عن موقعة الزلاقة. حينئذ رأى بنافذ بصيرته أنه لا بد من القضاء على حكم هؤلاء الأمراء بالأندلس وعبر الزقاق إليها سنة ٤٨٣ وبدأ الجيش بغرناطة ثم بالمعتمد بن عباد أمير إشبيلية، فقاوم قليلا ولم تغنه مقاومته، واستسلم، ونفاه ابن تاشفين إلى أغمات بقرب مراكش وكانت قرطبة تتبعه وعليها ابنه المأمون، وقاوم المرابطين وقتل، واستولى المرابطون على المدينة، كما استولوا على قلعة رندة من يد يزيد الراضى بعد أن لقى