وواضح أن اللفظ البارع كان يسند دائما معانيه وأشعاره، فلا تجد فيه عوجا ولا انحرافا، بل تجد دائما المتانة والسهولة، ويروى أنه سئل: ما بال شعرك لا يسمعه أحد إلا استحسنه وقبلته طبيعته؟ قال: لأنى أجاذب الكلام إلى أن يساهلنى عفوا، فإذا سمعه إنسان سهل عليه استحسانه. وقد توفى سنة ٢١٤ للهجرة.
[٥ - شعراء الهجاء]
مرّ بنا فى غير هذا الموضع أن شعر الهجاء المنبعث عن العصبيات القبلية خفت حدّته فى هذا العصر، حتى كاد يتلاشى، إلا بقايا قليلة تمثلت فى نقائض ابن قنبر ومسلم بن الوليد، كما تمثلت فى نقائض دعبل وأبى سعد المخزومى، ومرجع ذلك إلى تطور واسع فى الحياة، جعل الفخر الجنسى يحل محل الفخر القبلى، مما دفع إلى ظهور الشعوبية، وحقّا بقيت أسراب من هذا الفخر عند القبائل ومواليها، على نحو ما نجد عند بكر بن النطاح الحنفى فى مثل قوله مفتخرا بقبيلته بكر (١):
ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل
وكان أبو نواس-كما مرّ بنا-يفتخر بمواليه القحطانيين افتخارا حادّا، ولكن الدولة كانت له ولبكر وأمثالهما بالمرصاد فقد حبس الرشيد أبا نواس بسبب إحيائه لهذه العصبية، وطلب بكرا وهرب منه. وعلى هذا النحو لم تعد تحتدم العصبيات وبالتالى خبت نار النقائض التى كانت مشتعلة فى عصر بنى أمية.
وليس معنى ذلك أن الهجاء انطفأ لهيبه، بل لقد تعالت نيرانه واضطرمت اضطراما، إذ ظل الشعراء يسارعون إليه كلما حجبهم وزير أو وال أو قائد أو قصّر فى عطائهم، وقد يهجون بعض الخلفاء على نحو ما أسلفنا عند دعبل. وهو جانب أوسع من أن يستقصى لكثرة ما قيل فيه من أشعار، ولذلك سنكتفى هنا بالحديث عن تهاجى الشعراء بعضهم مع بعض، وقد ذكرنا قبلا تهاجى حماد عجرد وبشار
(١) ابن المعتز ص ٢١٧ وما بعدها والأغانى (طبعة الساسى) ١٧/ ١٥٤.