رأينا فى العصرين العباسى الأول والثانى كيف تنوع النثر تنوعا واسعا، فكان هناك النثر العلمى والنثر الفلسفى والنثر الأدبى، وكانت هناك المناظرات والمواعظ والقصص وكتب الأدب التهذيبى، وكانت هناك الرسائل الشخصية والسياسية، وكل هذه الأنواع مضت تزدهر فى عصر الدول والإمارات بالعراق وخاصة فى القرنين الرابع والخامس للهجرة. ولا نبالغ إذا قلنا إنهما كانا أزهى القرون فى العصر بالقياس إلى النثر وفنونه، فقد بلغ العقل العربى كل ما كان يرجى له من نضج، إذ ظل المترجمون ينقلون إليه قبل ذلك كل ما كان عند الأمم القديمة من معارف، وظل يتغذى بها وينمو ولم يلبث أن شارك فيها وأصبح للعرب علماؤهم ومتفلسفتهم، وظل يقطع أشواطا ومراحل حتى بلغ القمة فى مطالع هذا العصر.
وكانت قد بقيت للترجمة بقية، وهى تدل بوضوح على ما نقوله، فقد كانت انتقلت من الترجمة الحرفية إلى الترجمة بالمعنى على نحو ما صورنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الثانى، وإذا رجعنا إليها وإلى أصحابها فى هذا العصر لاحظنا أنهم انتقلوا بها نقلة واسعة نحو العناية بالأداء والصياغة، حتى لكأن المترجمات توضع فى العربية ابتداء، فلا عوج ولا أمت فى صيغة، بل مع الرونق وحسن الأداء، ونضرب مثلا للمترجمين عيسى بن زرعة البغدادى المتوفى سنة ٣٩٨ وفيه يقول أبو سليمان المنطقى السجستانى:
«هو آخر من يرتضى نقله لكتب الحكيم أرسططاليس: البسائط والجوامع. . وكتاب جالينوس «منافع الأعضاء وغيره من الكتب». ويذكر مثلا لما ترجمه من كلام أرسططاليس على هذا النمط (١):
(١) انظر فى الفقرة التالية المترجمة كتاب منتخب صوان الحكمة لأبى سليمان المنطقى السجستانى (طبع طهران) ص ٣٣٣