والبيتان فى غاية الرقة مما يدل على شاعرية خصبة مرهفة، وهى شاعرية أتاحت له أصدقاء مصريين تبادلوا معه مثل هذين البيتين الرقيقين. وكان يعاصره شاعر نفوسى إباضى هو أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم، وله مرثية بديعة يرثى بها شيخه أبا سليمان أيوب بن إسماعيل، وفيها يتحدث عن تقواه وبرّه وذكائه:
من للصلاة بجوف ليل مظلم ... والليل أسود حالك غربيب
أو للصيام إذا تطاول يومه ... وامتدّ طرفاه وهاج لهيب
أو لليتامى والأرامل بعده ... وتواترت فى العالمين حروب
أو للأمور إذا تفاقم حولها ... أهل النّهى والرّأى-بعد-غريب
وكأنما يفتقد بموت شيخه من يصلى آناء الليالى المظلمة الحالكة ومن يصوم فى الأيام الطويلة الملتهبة أو من يأخذ بيد اليتامى والأرامل فى الحروب الضارية ومن يحل الأمور المشكلة حين يعزّ الرأى الصائب المحكم. وحرى أن نتوقف قليلا لنترجم لشاعر أنجبته طرابلس فى حقبها الأولى.
[خليل بن إسحاق]
هو أبو العباس خليل بن إسحاق بن ورد، ترجم له ابن الأبار فى كتابه الحلة السّيراء ترجمة ضافية افتتحها بقوله: «مولده بطرابلس وهو من أبناء جندها (أيام الأغالبة) وكان فى أول أمره يطلب العلم والأدب ويصحب الصوفية ويبيت فى المساجد» وما إن انتهى حكم الدولة الأغلبية سنة ٢٩٧ وتحوّلت مقاليد الحكم إلى عبيد الله المهدى الفاطمى، حتى رحل إليه وانضوى تحت لوائه، وانتقض أهل بلدته: طرابلس سنة ٢٩٩ على واليهم الفاطمى فأرسل إليهم المهدى ابنه أبا القاسم لمحاربتهم وردّهم إلى الطاعة، وفى ركابه خليل، فحاصرهم أبو القاسم حتى اضطروا إلى الاستسلام، وكشّر لهم خليل عن أنيابه الغليظة التى كان يخفيها، وتولى تعذيبهم، لا تأخذه فيهم-وهم أهله-شفقة ولا رحمة، وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار. وما توافى سنة ٣٠٢ حتى يرسل المهدى ابنه أبا القاسم الملقب بالقائم فى جيش لمحاربة أهل مصر، فلحق به خليل بن إسحاق فى الإسكندرية فولاه القيام على أموال الجيش، وعاد القائم بجيشه، وعاد معه خليل، فقدّم على خيل إفريقية، وجعل أمر جندها إليه مع النظر فى البحر وشئون الأسطول الفاطمى.
وفى سنة ٣٢٥ ولاّه القائم الفاطمى صقلّية، فاستحال حاكما لها باغيا طاغيا أشد ما يكون البغى والطغيان، وأهلك أهلها جوعا وقتلا وجار فيها أشد ما يكون الجور والظلم، مما جعل كثيرين من أهلها يفرّون إلى بلاد الروم. وعزله الخليفة القائم عنها، وكان يقول بعد وصوله إلى إفريقية