سيعطيهم ما أملوه من مثاقيل الدراهم والرواتب والمراتب العالية. وهكذا تلفت عبد الله حوله فلم يجد له ناصرا، مما جعله يسارع إلى تسليم نفسه لابن تاشفين. والمذكرات تمضى على هذه الشاكلة فى لغة بسيطة لا سجع فيها ولا تكلف إلا ما دخلها من تصحيفات، ويقول محققها إنه نقلها عن نسخة محفوظة بجامع القرويين بفاس، وحرى أن يعيد نشرها محقق من أبناء الضاد يتقن العربية وقراءة خطها الأندلسى.
قصة (١) حى بن يقظان لابن طفيل
مر بنا فى الفصل الثانى تعريف قصير بابن طفيل بين فلاسفة الأندلس مع ذكر أهم المصادر لترجمته، وهو فى الذروة من الفكر الأندلسى، عاش فى القرن السادس الهجرى (٥٠٦ - ٥٨١ هـ) ونريد الآن أن نفصل الحديث فى قصة أدبية فلسفية قيّمة له هى قصة حىّ بن يقظان، وهى قصة فلسفية صوفية تثبت أنه لا تقاطع بين العقل والشريعة أو الفلسفة والدين، وهو فيها يحكى بالتفصيل قصة حى ونشأته فى جزيرة مهجورة من جزر الهند تحت خط الاستواء، ويقول إنه اختلف فى تكوينه، فقيل إنه تولد-دون أم وأب-من طينة تخمّرت بالجزيرة على مر السنين، وقيل إنه ابن أميرة جميلة كانت شقيقة لملك يمتلئ بالغيرة والأنفة منعها من الزواج بحجة أنه لا يجد لها زوجا كفئا، فتزوجت سرا من قريب لها يسمى «يقظان»، وحملت منه بجنين، ولما وضعته خشيت أن ينكشف سرها، فوضعته فى تابوت أحكمت إغلاقه، واستودعته أمواج اليم، فألقت به فى تلك الجزيرة وسمعت صياحه ظبية فقدت وليدها، فعطفت عليه، وظلت ترضعه وصارت له كأمه، ونما الطفل العريان وأخذ يتحول تدريجا إلى معرفة كل ما حوله. وتنقل به ابن طفيل من المهد إلى الصبا إلى الشباب، وهو يلاحظ ويجرب ويتأمل، نافذا إلى كل المعارف، من خلال فكر مستبصر. وما إن يصل إلى سن الثلاثين حتى يحيط بالطبيعة من حوله، وحتى يستغلها لغذائه ولكل حاجاته بدءا بتحريك يديه واستخدامها وستر سوءته ومعرفته الصيد، والنار واستخدامها فى إنضاج السمك واللحم، واتخاذ المخزن لحفظ ما يفضل من غذائه، والتفت إلى فرق ما بين النبات والحيوان فى الحركة وارتفاع الهواء
(١) طبعت قصة حى بن يقظان بمصر مرارا وفى دمشق وآخر طبعاتها بالقاهرة طبعة دار المعارف سنة ١٩٥٩ ومعها نفس القصة لابن سينا وللسهروردى وانظر فيهما كتابنا عصر الدول والإمارات الجزء الخاص بالجزيرة العربية والعراق وإيران ص ٦٤٤ وما بعدها وانظر فى قصة حى بن يقظان لابن طفيل وترجماتها بروكلمان وبالنثيا ص ٣٤٨ و ٦٠١ ومقدمات أحمد أمين لطبعة دار المعارف وكتاب أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوربية ص ٩٩ وما بعدها.