للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واللهيب إلى أعلى وانحدار الماء إلى أسفل، ولا حظ أن كل ما فى الطبيعة خاضع لقانون الكون والفساد، وعرف أرفع حقائق الطبيعة. وطال به التأمل فى ملكوت السموات والأرض، وهداه تفكيره إلى أن كل ما فى الوجود لا بد له من خالق لا يستغنى عنه، وأحسّ حاجته إلى مشاهدته وما ينبغى أن يكون عليه من طهارة جسده وصفاء نفسه حتى يتحد به. وتعبّد لذلك فى غار الأيام ذوات العدد وصام أربعين يوما. وظل يستغرق فى تأملاته منفصلا عن العالم الخارجى وعن جسده وحواسه حتى غاب عن كل ما حوله غيبات متصلة، وأصبح لا يحس شيئا سوى واجب الوجود، وكأنما فنى فيه عن ذاته، فليس فى الوجود إلا الواحد الأحد، وكأنما هما شئ واحد أو كأنما ذاته هى ذات الحق.

وكان يفيق من حاله تلك المتصلة بالعالم الإلهى البرئ من المادة ويعود إلى العالم الحسى مرارا وتكرارا، وأحسّ أنهما عالمان مختلفان تمام الاختلاف: عالم يقوم على الكشف والذوق ويصيب الإنسان فيه ما يشبه السكر والإغماء، وعالم يقوم على المنطق والعقل والمحسوسات المادية.

وحين بلغ خمسين عاما من عمره نزل جزيرته من جزيرة مجاورة رجل تقى يسمى أبسال وصلته-كما وصل أهلها-تعاليم النبوة، وتعرف على «حى» وعلمه اللغة والكلام، وعجب أن وجد فى الطريق الفلسفى الذى سلكه «حى» تعليلا علويا لرحلة العقل من عالم الحس إلى عالم الدين الروحى الذى اعتقده ولجميع الأديان المنزلة، وعرض عليه أن يأخذه إلى جزيرته التى يحكمها صديقه سلامان حتى يرى أهلها ما اكتشف من الحقائق العليا، وقبل عرضه ونزل معه تلك الجزيرة وأخذ يحدّث أهلها عن العالم الإلهى الذى يتحد فيه الإنسان بربه ولا يرى فى ذاته ولا فى الوجود سواه، غير أن الناس لم يفهموا ما يتحدث عنه، وكلما زاد فى الحديث ازدادوا نبوّا ونفارا، إذ تهالكوا على الشهوات وجمع حطام الدنيا، وأصبحت لا تنجع فيهم الموعظة ولا الكلمة الطيبة، فقد ألهتهم عن ذكر الله تعالى الدنيا، مما جعل مخاطبتهم عن طريق التذوق الروحى لا تمكن، فحسبهم ما تخاطبهم به شرائعهم حتى يستقيم معاشهم، لذلك اعتذر «حى» لسلامان وأصحابه عما تكلم به معهم، ونصحهم بالتمسك بديانات آبائهم وأعمالها الظاهرة فإن ما وراءها من الاتصال بالعالم الإلهى والذات الإلهية فوق حاجتهم ومداركهم. وقرر مع صاحبه أبسال العودة إلى الجزيرة المهجورة لينعما فيها بحياة المكاشفة الإلهية. ونقتطف من القصة قطعة يصور فيها «حى» أنه ما زال يحاول الاتصال بواجب الوجود معرضا عن جميع المحسوسات، مستغرقا فى مشاهدته، واستطاع بجهاده أن تغيب عنه جميع

<<  <  ج: ص:  >  >>