طبيعى أن تكثر الخطب والمواعظ فى المغرب الأقصى كثرتها فى بلدان العالم الإسلامى جميعا، إذ كانت تكرّر فى كل مسجد أسبوعيا فى صلاة الجمعة وبالمثل فى صلاة العيدين، وربما كانت كثرة تكرارها هى السبب فى أنه لم يتجرد أحد من القدماء لتدوينها تدوينا عاما، ومع ذلك فقد أثرت بعض خطب قالها بعض الحكام أو بعض كبار الوعّاظ. ومن أوائل ما نلتقى به منها خطبة إدريس الثانى فى دولة الأدارسة سنة ١٩٣ هـ/٨٠٨ م حين فرغ من بناء مدينة فاس وحضر صلاة الجمعة فقد صعد المنبر وخطب الناس الخطبة الأولى قائلا (١):
«اللهم إنك تعلم أنى ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا سمعة ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد فيها، ويتلى كتابك، وتقام حدودك وشرائع دينك وسنّة نبيّك محمد صلّى الله عليه وسلم ما بقيت الدنيا. اللهم وفّق سكّانها وقطّانها للخير وأعنهم عليه، واكفهم مئونة أعدائهم، وأدرّ عليهم الرّزق، وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق، إنك على كل شئ قدير».
وهذه الخطبة المأثورة عن إدريس الثانى إنما هى قطعة من خطبته، وفيها يعلن أنه لم يبن فاسا مباهاة ولا ابتغاء لشهرة، إنما بناها ابتغاء لوجه الله وثوابه حتى يعبد فيها ويتلى كتابه وتقام حدوده وسنة رسوله الكريم، وتحققت سريعا نيّته، فقد أقامها مدينتين متقابلتين: مدينة القرويين من أهل المغرب ومدينة الأندلسيين الذين لجئوا إليه زمن الحكم الربضى فى الأندلس وثورة الفقهاء عليه ونفيه لطائفة كبيرة منهم، فنزلت كثرتهم المدينة الغربية ولم يلبث أن شيّد فى مدينة القرويين الجامع المشهور باسمها: جامع القرويين وأصبح أقدم جامع فى إفريقيا للدراسات الدينية إذ بنى الجامع الأزهر بعده بنحو مائة عام. وازدهرت فى جامع فاس هذه الدراسات الدينية إذ بنى الجامع الأزهر بعده بنحو مائة عام. وازدهرت فى جامع فاس هذه الدراسات حتى العصر الحديث. ودعا إدريس لسكان فاس دعوات كريمة. أن يوفق الله أهلها للخير ويمدهم بعونه ويكفيهم مئونة أعدائهم، ويوفّر الرزق لهم ويقيهم الفتنة والشقاق.