وكان قابوس مكرما للعلماء والشعراء يجزل الصلات لهم، وقدّم له البيرونى كتابه «الآثار الباقية» وقدم له الثعالبى كتابيه: «المبهج» و «التمثل والمحاضرة». وكان مثقفا ثقافة واسعة شملت علوم الأوائل، ويقال إنه كتب فى الإسطرلاب كتابا كان يعجب به الصاحب. وكان أديبا بارعا، وهو يعد من كبار الكتاب فى عصره، وفيه يقول الثعالبى:
«جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم بسطة القلم، وإلى فصل الحكمة نفاذ الحكم، وإنى أتوّج هذا الكتاب (اليتيمة) بلمع من ثمار بلاغته. . وأكتب فصولا من عالى نثره».
ويقول العتبى فى كتابه اليمينى:«إن رسائله موجودة فى البلاد عند الأفراد، لكنى أكتفى منها بلمعة من بوارق بيانه، وزهرة من حدائق إحسانه». ويعلق أبو هلال العسكرى على رسالة له اقتبسها فى كتابه «ديوان المعانى» بأنها لا نظير لها فى الافتخار والعتاب. وقد جمع رسائله فى عصر قريب منه عبد الرحمن بن على اليزدادى باسم «كمال البلاغة» ونشرت فى القاهرة، ونراه يحلل فى مقدمته لها بلاغته، وقد ردّها إلى أربعة عشر نوعا فى طريقة التسجيع واستخدام قابوس اللوازم المتصلة به، مما يصور بوضوح تعقد السجع عند قابوس تعقدا شديدا، وهو تعقد مرجعه فيما يظهر سعة وقته، وكأنه اتخذ منه أداة للهوه وتسليته على نحو ما يتضح فى المطلع التالى لإحدى رسائله:
«الإنسان خلق ألوفا، وطبع عطوفا، فما لسيدى لا يحنى عوده، ولا يرجى عوده، ولا يخال لفيئه مخيلة، ولا يحال تنكره بحيلة، أمن صخر تدمر قلبه، فليس يلينه العتاب، أم من الحديد جانبه فليس يميله الإعتاب».
وواضح تصنعه المعقد للجناس فى سجعانه إذ يجانس بين «عوده» و «عوده» ملتمسا جناسه فى اختلاف حركة العين فى الكلمتين، وقد يلتمس الجناس عن طريق الاشتقاق كما فى «يخال» و «مخيلة» وفى «يحال» و «بحيلة». وقد يلتمسه فى تغاير بعض الحروف فى الكلمة كما فى «مخيلة» و «بحيلة». وكل ذلك ليظهر مهارته فى تضييق ممراته إلى أسجاعه.
وفى كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» بيان واف لهذا الجانب عنده.
أبو النصر (١) العتبى
هو محمد بن عبد الجبار العتبى، مولده ومرباه فى الرّىّ، وقد فارقها فى شبابه، وقدم خراسان على خاله أبى نصر العتبى وكان من وجوه العمال بها، فلم يزل يرعاه كالولد العزيز
(١) انظر فى ترجمة العتبى اليتيمة ٤/ ٣٩٧ والسبكى فى ترجمة محمود بن سبكتكين الغزنوى ٤/ ٣١٩ وبروكلمان (الترجمة العربية) ٦/ ١.