بيان وجوه من محاسن المتنبى فى إرسال الأمثال والحكم وينهيه بالثناء عليه وعلى شعره.
والكتاب يدل على بصر جيد بمعرفة الشعر ونقده وفيه ما يصور ثقافة هذا الناقد الحضرمى المكى وأنه اطلع على كثير مما كتب عن المتنبى قبله وقد حاول أن يضيف إضافات جيدة فى بيان محاسن شعره ومعايبه، وهو يشيد به فى فواتح كتابه إشادة بالغة وكذلك فى تضاعيفه وفى خاتمته ونهايته. ومن أطرف صحفه الصحف التى تحدث فيها عن السرقات إذ عرض فيها أسماء شعراء متأخرين نابهين كثيرين مما يدل على ثقافته الواسعة بالشعر والشعراء حتى زمنه.
[٤ - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام.]
ما قلناه عن التراث اللغوى والنحوى والبلاغى وأنه كان مشتركا بين البلدان العربية على اختلاف أقطارها ينطبق أشد الانطباق على تراث الفقه والحديث والتفسير والقراءات وعلم الكلام، فهو تراث مشترك يدرس فى كل أنحاء الجزيرة العربية كما يدرس فى كل أنحاء العالم العربى، لا فرق بين بلد وبلد ولا بين زمن وزمن. ولم يكن طلاب العلم حينئذ يكتفون بأخذه عن علماء بلدهم، بل كانوا يرحلون إلى لقاء العلماء النلبهين فى كل بلد وخاصة فى العراق والشام ومصر، ليتلقوا العلم عنهم شفاها. ولا يكتفى الطالب بالرحلة مثلا إلى بغداد ولقاء علمائها، بل يرحل إلى بلاد أخرى طامعا فى أن يجمع لنفسه كل ما يستطيع من مواد المعرفة فى علم بعينه أو فى مجموعة من العلوم.
وجعل الحجّ والزيارة النبوية مكة والمدينة قبلتين للطلاب والعلماء جميعا، على نحو ما مرّ بنا فى علوم العربية فكان يفد عليهما أنبه العلماء فى العالم الإسلامى، وكثيرا ما ينزلون بهما سنة أو سنوات، وطلاب البلدتين ينهلون من ينابيع علومهم الغزيرة. ونضرب مثلا فى الفقه بالجوينى (١) عبد الملك بن عبد الله النيسابورى شيخ الإسلام العلامة الأصولى الفقيه المتكلم المتوفى سنة ٤٧٨ وقد جاور بمكة أربع سنوات قضى منها شطرا فى المدينة ولذلك سمّى إمام الحرمين، وكان يدرس هناك ويفتى ويجتهد فى نشر العلم بفقه الشافعى، وكان علمه بهذا الفقه قد أحدث دويا هائلا لاسمه فى موطنه وحين نزل بغداد ولقى علماءها وناظروه، ويقولون عنه: وقف علماء المشرق والمغرب معترفين بالعجز بين يديه، ويقول
(١) انظر مصادر ترجمته فى الفصل الثانى من القسم الخاص بايران.