وظل قيس على هذا النحو يشكو حبه وندمه على فراق صاحبته، حتى رأى رضيعه الحسين بن على ونفر من قريش تعمّقهم التأثر له أن يكلموا زوج لبنى فى شأنه لعله يردها عليه. وصدع لمشيئتهم راضيا، فعادت لبنى إلى قرة عينها وظلت عنده حتى ماتت، فأكبّ على القبر يبكيها، ولم يزل عليلا إلى أن لحق بها، فدفن إلى جنبها.
جميل (١) بن معمر
لعل حياة جميل أوضح حياة بين الشعراء العذريين، فقد نشأ فى منازل عذرة بوادى القرى، وأخذ يختلف إلى المدينة، وربما إلى مكة، فقد كان يلقى ابن أبى ربيعة كثيرا ويتناشدان الشعر، ويقال إنه حدا يوما بمروان بن الحكم. ويظهر أنه كان يتصل ببنى أمية كثيرا، ففى أخباره أنه رحل إلى عبد العزيز بن مروان بمصر ولقيه لقاء كريما.
وكان كثيّر عزّة راوية له. وشعره لذلك أوثق شعر العذريين، وفى أخباره أنه تلقن الشعر عن هدبة بن الخشرم تلميذ الحطيئة، ونعرف أن الحطيئة تلميذ زهير، وكأنه يمتّ بأسباب قوية إلى هذه المدرسة التى كانت تعنى بصقل الشعر وتجويده. ونجد له أخبارا أخرى تتصل بتهاجيه مع بعض الشعراء الحجازيين مثل الحزين الكنانى.
نحن إذن أمام شاعر واضح الشخصية، عنى الرواة والناس بأشعاره، كما عنى بها مغنو المدينة ومكة، وهى أشعار يمضى جمهورها فى التغنى ببثينة معشوقته، إحدى نساء قبيلته، تحابّا صغيرين، ولم تلبث أن ألهمته الشعر، إذ أحبها حبّا انتهى به إلى الهيام بها، وعرفت ذلك فمنحته حبها وعطفها، وأخذت تلتقى به حين شبّا فى غفلات من قومهما، وخشى أهلها مغبة هذا اللقاء، فضيّقوا عليها الخناق، على الرغم مما عرفوا من أن الحب بينها وبين جميل حب نقى برئ،
(١) انظر فى جميل وأخباره وأشعاره الأغانى (طبع دار الكتب) ٨/ ٩٠ وما بعدها وابن سلام ص ٤٦١، ٥٤٣ والشعر والشعراء ١/ ٤٠٠ وما بعدها والخزانة ١/ ١٩٠ والموشح ص ١٩٨ وتاريخ دمشق لابن عساكر ٣/ ٣٩٥ وحديث الأربعاء ١/ ٢٤٩، ٢٨٧. . وطبع ديوانه بشير يموت فى بيروت ونشره حسين نصار بالقاهرة وانظر فى بعض قصائده الأمالى ٢/ ٨٧، ٣٠٣.