للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أنها عاصتك غير مجيبة ... أجابتك من تحت السيوف رقابها

تهابك آفات الخطوب فتنتهى ... ولا تنتهى عن خطّة فتهابها

رماحك أحناء الضلوع نقافها ... وخيلك تامور النفوس شرابها (١)

وهو يقول للمنصور إن بلدا لم تستسلم لك ولم تأتك طاعة أهلها لا تأمن أن تدكّ هضابها دكّا كأن لم تكن شيئا مذكورا، وإن الأسد الضارية المفترسة بها لتحطّ لديك خواضع مهما كان غابها وغيلها بعيدا ولو أنها أعلنت عصيانك لأجابتك رقابها من تحت السيوف ذليلة خانعة، وإن الخطوب-مهما عظمت-لتهابك، بينما أنت لا تهاب خطة، إذ لا تزال تبرم الخطط، وتلك رماحك لا تزال تضرب فى أحناء الضلوع، ولا يزال شراب خيلك دم الأعداء. والقصيدة مكتوبة بلغة جزلة رصينة وكأنها تقرع الآذان قرعا بموسيقاها اللجبة، وكأنما تمتلئ برعد قاصف. وبدون ريب كان عبد الكريم النهشلى شاعرا مبدعا.

عبد (٢) الله بن محمد التنوخى (ابن قاضى ميلة)

تقع ميلة فى الشمال الغربى لقسطنطينية والجنوب الشرقى من بجاية، وبها نشأ عبد الله بن محمد التنوخى فى بيت علم إذ كان أبوه قاضيها، ولذلك اشتهر باسم ابن قاضى ميلة، ويقول ابن رشيق إنه صحب أباه إلى جزيرة صقلية، فاتصل عن طريقه بواليها ثقة الدولة (٣٧٩ - ٣٨٨ هـ‍) وكان حسن السيرة، ضبط صقلية وساس رعيتها سياسة عادلة حببته إليها، ودوّخ الروم واستقامت له فيها الأمور، وكان كريما كرما فياضا فقصده كثيرون من كل فجّ، فأكرمهم وفى مقدمتهم قاضى ميلة. وكان ابنه عبد الله شاعرا محسنا، فمدحه بقصيدة فائية بارعة، فقرب منزلته ومنزلة أبيه وأجزل صلته، ويبدو أنهما لم يمكثا طويلا بصقلية. وأشاد بابن قاضى ميلة من ترجموا له، فابن رشيق يقول فيه: «شاعر لسن مقتدر يؤثر الاستعارة ويسلك طريق ابن أبى ربيعة وأصحابه فى نظم الأقوال والحكايات، وله فى الشعر قدم سابقة ومجال متسع، وربما بلغ فى الإغراق والتعمق إلى فوق الواجب، وهو لهج بذلك طالب له». ويقول ابن بسام فيه: «ضرب فى الأدب بأعلى قدح وافترّ عنه على أوضح صبح». ونوه ابن خلكان بفائيته فى ثقة الدولة، ويقول أحببت إثباتها لحسنها وغرابتها، وأنشدها. وهو يستهلها بغزل حوارى لصاحبة له التقى بها محرمين فى الحج، وهو غزل بديع سنذكر طرفا منه فى غير هذا الموضع، وخرج منه إلى مديح ثقة الدولة والى صقلية فى يوم عيد من أعيادهم، وفيه يقول:


(١) النقاف: مضرب الرماح. تامور: دم.
(٢) انظر فى ابن قاضى ميلة أنموذج الزمان لابن رشيق ص ٢٠٩ وابن خلكان ٦/ ١٥٩ وراجع ٥/ ٨٤٣ والذخيرة لابن بسام ٤/ ٥٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>