للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمد بن اللباد رئيس المالكية، وسجنوه، وعادوا فردوا إليه حريته وألزموه الاعتكاف فى بيته، فكان تلاميذه يقصدونه خفية ويقرءون عليه فى بيته، وكان ربيع القطان يقرئ تلاميذه فى حانوته الذى يبيع فيه القطن. وظل العبيديون يحاولون القضاء على مذهبى مالك وأبى حنيفة، وعلماء السنة يقاومونهم مقاومة حادة وينازلون دعاتهم منازلات ضارية، وكان الفقيه سعيد بن الحداد يقود هذه المنازلات فى أيام عبيد الله المهدى، وسمع به وبإسكاته الدعاة وإلزامهم الحجة، فاستدعاه-كما يقول المالكى فى كتابه «رياض النفوس» -وعرض عليه الحديث النبوى:

«من كنت مولاه فعلىّ مولاه» فقال له سعيد: هو حديث صحيح قد رواه أهل السنة، فالتفت إليه وقال له: فما للناس لا يكونون عبيدنا؟ فقال له سعيد: أعزّ الله السيد، لم يرد (الرسول) ولاية الرّق، إنما أراد ولاية الدين، فقال له عبيد الله المهدى: هل من شاهد يؤيد كلامك من كتاب الله عزّ وجل، فقال له: نعم، قال الله تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ، وَلكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ثم قال سعيد: فما لم يجعله الله لنبى لم يجعله لغير نبى، وعلى لم يكن نبيا إنما كان وزير النبى صلّى الله عليه وسلّم. وبذلك أفحمه، فقال له انصرف. ولم تقف المسألة فى العقيدة العبيدية الفاطمية عند محاولة الخلفاء العبيديين استعباد الناس، فقد حاولوا إقناعهم بأنهم الصورة المجسدة للذات العلية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا إلى غير ذلك من ضلالاتهم التى صورنا أطرافا منها فى كتابنا-بهذه السلسلة-عن مصر. وظلت القيروان تقاطع عقيدتهم إلى أن انتقلوا إلى القاهرة وعادت لمذاهب أهل السنة نشاطاتها وخاصة مذهب مالك، ولم يلبث المعز الصنهاجى سنة ٤٣٨ هـ‍/١٠٤٦ م أن حمل الناس والفقهاء على اتباعه، فظل هو المذهب السنى الأساسى فى القطر التونسى إلى اليوم، وحقا اشترك معه المذهب الحنفى أيام العثمانيين، ولكن ظل هو المذهب السنى للجماهير التونسية.

٥ - الزهد والتصوف (١)

هذا القطر أو هذه الدار التونسية الكبيرة للدين الحنيف أخذت تتحول سريعا إلى دار


(١) راجع فى الزهد والتصوف كتاب رياض النفوس فى التراجم وكذلك طبقات علماء إفريقية لأبى العرب ومعالم الإيمان لابن ناجى، وبرنشفيك ٢/ ٣٣٢ وما بعدها. وانظر فى المنزعين الصوفيين: الفلسفى والسنى ما كتبنا عنهما فى الجزء الخاص بمصر من هذا التاريخ للأدب العربى وكذلك انظر فى هذا الجزء ترجمة أبى الحسن الشاذلى.

<<  <  ج: ص:  >  >>