للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السمع والبصر، ورمينا فيه بأعظم الحوادث والغير، وأى رزء ما أفظعه فى القلوب، وأى خطب ما أشنعه فى الخطوب. . وقد رمانى ساعد الزمان حين رماك، وأصمانى سهمه كما أصماك. .

لا أعاد الله عليك بعد هذا الخطب خطبا، ولا أرجف لك قلبا».

والاستعارات فى التعزية والجناسات تخلو من التكلف، والسجع ينزلق فى الرسالة- كسابقتها-عن اللسان بخفة، والألفاظ فيه متآخية كأنما بينها رحم وقرابة، لما بينها من تلاؤم فى الجرس ييسّرها فى النطق على اللسان، ويزيّنها فى السمع للآذان.

[٤ - المقامات]

فن المقامة فن عربى عباسى ابتكره بديع الزمان عارضا فيه حيل الأدباء السيارين المحترفين للكدية أو الشحاذة الأدبية عن طريق ما يخلبون به الناس من فصاحتهم، وقد كتب مقاماته بأسلوب قصصى، واتخذ لها جميعا راوية هو عيسى بن هشام وبطلا هو أبو الفتح الإسكندرى، وعيسى يروى فى كل مقامة حيلة لأبى الفتح مع شئ من حواره معه فى أساليب أدبية مسجوعة بديعة. وتلقانا فى القيروان وتونس رسائل أدبية يسميها أصحابها مقامات، وهى لا تقوم-كما قامت عند بديع الزمان والحريرى بعده-على الكدية أو الشحاذة الأدبية، مما يجعل فى تسميتها مقامات ضربا من التجوز. ومن أقدمها فى القيروان رسالة نقدية لابن شرف سماها «رسائل الانتقاد» عرض فيها نحو أربعين شاعرا منذ العصر الجاهلى حتى عصره، وأتبع ذلك ببحث فى سقطات عدد من الشعراء وعيوبهم. وأحكامه على الشعراء مجملة وغير معللة غالبا، وهى بذلك ليست مقامة وإنما هى رسالة نقدية ولا نسمع بعد ذلك عن عمل لقيروانى حاكى به قصص الشحاذة الأدبية عند بديع الزمان والحريرى، حتى إذا كنا فى العصر العثمانى وجدنا غير شاعر ينسب إليه بعض المقامات، وأول ما يلقانا من ذلك ثلاث (١) مقامات للشاعر على الغراب الصفاقسى المترجم له بين شعراء المديح، وأولاها تسمى المقامة الباهية نسبة إلى الشيخ أبى العباس أحمد الباهى فى إتمامه مدرسة أحدثها لعهد الأمير على باى الأول، وقد حدثه بها أبو الصلاح مسعود عن أبى الثناء محمود الذى روى له أخبار تونس مفيضا فى مديحها ومديح الأمير على باى الأول. ثم يفيض فى وصف المدرسة ومبانيها وغرفها وصفا مسهبا، ثم يطنب فى تهنئة الشيخ الباهى وابنه بإتمام المدرسة ويختم المقامة بقصيدة فى مديح الشيخ. وواضح أن هذه المقامة ليس لها من فن المقامة شئ، أما فى حقيقتها فإنها رسالة تهنئة للشيخ الباهى المسماة باسمه. وسمى مقامته الثانية باسم المقامة الهندية نسبة إلى الهندى وهو التين الشوكى، وكان شخص ذمه فأخذ يبدئ ويعيد فى وصفه ووصف نموه على شجره قبل قطفه والالتذاذ


(١) انظر المقامات فى ديوانه ص ٣٣١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>