والأخبار تراثا كبيرا، ومعروف أنه يقع فى واحد وعشرين مجلدا ضخما وأن للجاهليين فيه حظّا موفورا. وهو يسوق هذه المادة الجاهلية الشعرية التاريخية مقترنة بأسناد، تصور مصدرها، محتاطا إزاء رواته أشد الحيطة، فمن عرف بكذبه نبّه عليه، وحتى من عرف بصدقه كان يراجع روايته على روايات معاصريه ودواوين الشعراء، مبالغة فى الدقة والتحرى. والكتاب مؤلف حقا فى القرن الرابع الهجرى. ولكنه يستمد من رواة القرنين الثانى والثالث الهجريين كما يتضح من أسانيده، فهم الذين جمعوا هذا التراث الجاهلى الضخم، وأتاحوا لمن جاءوا بعدهم أن يؤلفوا مؤلفاتهم الكبرى، سواء أكانت مجموعات شعرية أو أمالى أو أخبارا وتراجم. بل لقد بدأ منذ القرن الثالث تأليف هذه الكتب الجامعة مثل حماسة أبى تمام والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة وكتابه الشعر والشعراء.
وربما كان السكرى أهم راو ظهر فى النصف الثانى من القرن الثالث، فقد رويت عنه دواوين كثيرة، وهو يجمع فى روايته بين الروايتين الكوفية والبصرية إذ أخذ عن ابن حبيب وابن السكيت الكوفيين كما أخذ عن الرياشى وأبى حاتم السجستانى البصريين. ونمضى فى القرن الرابع الهجرى، فيتكاثر التأليف والتدوين على نحو ما هو معروف عن ابن دريد وابن الأنبارى والقالى والمرزبانى، وعملهم كما ذكرنا مشتق من عمل رواة القرن الثالث، ونراهم يهتمون-مثل أبى الفرج الأصبهانى فى أغانيه-بالسند، فهم لا يكتفون غالبا بالراوى القريب الذى سمعوا منه، بل يسلسلون الرواة حتى نصل إلى أبى عمرو بن العلاء أو إلى المفضل الضبى مثلا. وبذلك قدموا لنا-صنيع سابقيهم-مادة الشعر الجاهلى بكل ما تحمل من أسباب ضعف أو ثقة، وكان كثير منهم لا يزال يرحل إلى البادية صنيع الرواة المتقدمين.
[٤ - قضية الانتحال]
واضح مما قدمنا أن الشعر الجاهلى دخل فيه انتحال كثير، وقد أشار إلى ذلك القدماء مرارا وتكرارا، وحاولوا جاهدين أن ينفوا عنه الزيف وما وضعه الوضّاع