لا نبالغ إذا قلنا إن الغزل أهم موضوع شغل شعراء العرب فى جميع عصورهم وأقاليمهم، وقد ظلوا يصورون فيه عاطفة الحب الإنسانى الخالدة، ويضيفون فيه من الأحاسيس والخواطر ما يملأ مجلدات فى كل عصر على حدة، بل أيضا فى كل إقليم. ودائما الشاعر موزع بين وصال ولقاء وبين وداع وفراق، تارة هانئ بحبه وتارة شقى محروم يشكو الهجران، ويتمنى لمحة خاطفة ولو من بعيد، حتى إذا أقبلت عليه صاحبته أحسّ بفرحة لا تماثلها فرحة، فإذا انصرفت عنه أظلمت الدنيا فى عينيه، واحتمل ما لا يطاق من الآلام والعذاب، ومضى يئن بالشكوى ويتضرع ويستعطف. والغزل من قديم يتفرع عند العرب فرعين كبيرين: فرعا ماديا حسيا، يصدر فيه الشاعر عن الغريزة النوعية أحيانا، إذ مأربه منه اللذة الحسية، وهو لذلك قد يعنى بتصوير متاعه المادى فيه تصويرا مزريا وفرعا ثانيا عذريا عفيفا يتسامى فيه الشاعر عن الحس والمادة إلى النقاء والصفاء والطهر، وكأنه يحب صاحبته لمعانى الحب والوجد فى ذاتها، لا لشئ حسى وراءها، وهو الفرع الذى نمتلئ به إعجابا عند شعراء العرب، ممن أحبوا واستأثر الحب بقلوبهم وأفئدتهم، حتى كأنما أصبح نارا فى صدورهم لا يمكن إطفاؤها، وهم يتعذبون بتلك النار وما تذيقهم من العذاب واجدين فيها متاعا لا يفوقه متاع، متاع يرافقه دائما الحرمان والدموع والآلام. وهذان الفرعان من الحب العذرى والحب المادى يكتظ بهما الشعر الأندلسى ولأولهما دائما الغلبة والرجحان، ونشعر كأنما أصبح الناس جميعا شعراء ينظمون فى الغزل والحب وبيان دقائقه ومشاعره، سواء فى ذلك أمراء البيت الأموى وحكامه أو أبناء الشعب عربا وبربرا ومسالمة ومولدين، من ذلك قول الحكم الربضى فى جوار غاضبنه وهجرنه (١):
(١) انظر فى مقطوعة البيتين الحلة السيراء ١/ ٥٠ والبيان المغرب لابن عذارى ٢/ ٧٩.