وكان مغرى بهجاء الوعاظ والفقهاء والنّسّاك، ويقال إن الفرزدق همّ بهجائه حين رآه يكثر من هجاء المغيرة بن حبناء وقبيلته تميم، فبادره بقوله:
وما ترك الهاجون لى إن هجوته ... مصحّا أراه فى أديم الفرزدق
وإنا وما تهدى لنا إن هجوتنا ... لكا لبحر مهما يلق فى البحر يغرق
فتوسل الفرزدق إليه أن يكفّ عنه. وفى ذلك ما يدل على أنه كان يتقن الهجاء كما كان يتقن المديح والرثاء، ومرثيته للمغيرة بن المهلب من روائعه.
وقد توفّى فى حدود المائة الأولى للهجرة.
[٢ - شعراء الهجاء]
احتدم الهجاء فى هذا العصر احتداما شديدا، بتأثير العصبيات القبلية التى اشتعلت-كما مرّ بنا-نيرانها فى كل مكان، ومعروف أن الإسلام دعا إلى نبذ هذه العصبيات وحاربها حربا عنيفة، غير أن هذا-فيما يظهر-كان مثلا أعلى لم يستطع العرب تحقيقه إلا إلى فترة محدودة، فلم تكد نيرانها تتحول إلى رماد، حتى عادت إلى الظهور، إذ نشبت حرب الرّدّة وأشرع فيها الشعراء ألسنتهم صادرين عن روحهم القبلية، على نحو ما يروى عن أبى شجرة السّلمى وانتصاره للمرتدين من قبيلته سليم، وكأن من دخلوا هذه الحرب أرادوا أن يخلعوا عنهم سلطان قريش. وقضى أبو بكر الصديق قضاء مبرما على هذه الفتنة، ودفع العرب إلى الفتوح، ولكنهم لا يكادون يهدأون، حتى تحدث فتنة عثمان وتنشب الحروب بين علىّ وخصومه: طلحة والزبير وعائشة ثم معاوية. وكانت كثرة جيشه من اليمانية وربيعة، ونراهما تتنافسان فى قيادة حربه بموقعة الجمل، كما تتنافسان فى موقعة صفّين ضد معاوية، ويتبادل شعراؤهما الطعن والتجريح كلّ يصور حسن بلاء قومه فى الحرب. والتقت بهذه الأصوات أصوات مضريّة كثيرة. وحدث هذا نفسه فى صفوف خصومه، مما نجد آثاره فى الطبرى وفى