وإن قلبه ليتقطع أسى وإنه ليتنفس الصعداء حين يرى الحجاج الأندلسيين من دونه يسيرون فى قوافلهم إلى بيت الله الحرام وزيارة الرحمة المهداة للأمة الذى أرسله الله نورا وضّاء للعالمين. ويفضى ابن الجنان إلى أسى ولوعة عميقين، حتى ليشعر كأن الدنيا تحولت من حوله إلى سجن رهيب وأغلال وأصفاد، فلا يستطيع فكاكا ولا لحاقا بالقوافل المتجهة إلى الأراضى المقدسة فى الحجاز. ويذرف الدمع مدرارا، ويتمنى لو زار الرسول صلى الله عليه وسلم لا على قدميه بل على وجنتيه، حتى تكتحل عيناه بسنى النور المحمدى. وروى المقّرى له موعظة بديعة فى فضل الرسول وما أنعم الله به على البشر من رسالته الزكية وما أجرى عليه من معجزات فيها الآيات الكبر والدلالات الواضحة الغرر، ويتلو المقرى هذه الموعظة بموعظة ثانية يتحدث فى نهايتها عن مصاب المسلمين بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف عزّهم الصبر، يقول:«وهل يسوغ الصبر الجميل فى فقيد بكته الملائكة وجبريل، وكثر له فى السموات السبع النحيب والعويل، وانقطع به عن الأرض الوحى الحكيم والتنزيل؟ .
ويصور ابن الجنان كيف عمّ حينئذ الحزن والاكتئاب، وكأنما دموع الصحابة السحاب، ويقول إن الله عز شأنه سينجز وعده له بالشفاعة وقيامه المقام الموعود على الحوض يوم القيامة مناديا فى الناس هلموا إلى لتطفئوا حرارة العطش الملتهب فى الصدور، ويتجه ابن الجنان إلى ربه داعيا:
«اللهم اسقنا من حوضه المورود، وشرّفنا بلوائه المعقود، وشفّعه فينا فى اليوم المشهود، وارحمنا به إذا صرنا تحت أطباق اللّحود، وانفعنا بمحبته ومحبة آله وصحابته الرّكّع السّجود، واجعلنا معهم فى الجنة دار السلام ودار الخلود».
وبهذه اللغة الصافية التى تموج بالرقة والعذوبة والتى تلذ الألسنة حين تنطق بها والأسماع حين تنصت إليها كان ابن الجنان يمتع القلوب والأفئدة.
[(ب) مواعظ]
كانت الأندلس-مثل غيرها من البلدان الإسلامية-تكثر فيها المواعظ الدينية شفوية ومكتوبة، وكان من أهم البواعث لذلك الخطابة فى المساجد أيام الجمعة والعيدين واستشعار الخطباء هناك لخطابة الرسول والخلفاء الراشدين ومن تلاهم من جلّة الخطباء والوعاظ ممن حكى الجاحظ وعظهم وخطابتهم فى كتابه البيان والتبيين، وكثير هم الأندلسيون الذين تذكر فى تراجمهم أن لهم خطبا ومواعظ مدونة، وأشهر خطباء الدولة