للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأموية بالأندلس ووعاظها منذر بن سعيد، وسنخصه بكلمة. وكان يحدث كثيرا أن يتأخر المطر الذى يبعث الحياة فى الوديان والسهول والزروع، فكان الناس يجتمعون فى المساجد لصلاة الاستسقاء، ويقف بينهم الخطيب واعظا مذكرا بنعم الله عليهم مفيضا فى الحديث عن الإنابة إلى الله، داعيا الله دعاء مكررا: أن يرسل عليهم الغيث. وفى الكثرة الكثيرة من تلك الصلوات كانوا يغاثون ولا ينصرفون من المساجد إلا وأحذيتهم فى أيديهم من كثرة السيول التى تدافعت من السماء. ويتوقف أصحاب كتاب التراجم مرارا وتكرارا فى ترجماتهم للقضاة ممن كانت تسند إليهم خطابة الجامع الكبير، ليحدثونا عن صلاتهم مع أهل قرطبة لاستنزال الغيث، وبينما الخطباء يلحّون بالدعاء كان الناس يكثرون من الضجيج والابتهال، وتشملهم رحمة الله فتنعقد السحب وتبرق وترعد ويهطل الغيث مدرارا.

وبجانب هؤلاء الخطباء الوعاظ ومواعظهم وأدعيتهم كان هناك زهاد أثرت عنهم مواعظ وأدعية كثيرة مثل أبى وهب العباسى المعاصر لمنذر بن سعيد المتوفى سنة ٣٤٤ المار ذكره. ويدور بنا الزمن دورة ونصبح فى عصر أمراء الطوائف، ونلتقى فيه بمواعظ كتابية تحبّر فيها رسائل بديعة. وهى رسائل وعظية تتقدم خطوة-إن لم تكن خطوات- نحو المتاع الروحى والشوق إلى اللقاء الربانى والانقطاع إلى النسك والعبادة للحى القيوم عن كل متاع دنيوى. ونحسّ كأن الأندلس أخذت تتجه بقوة إلى النزوع الصوفى على نحو ما يلقانا فى رسالة كتبها الفقيه أحمد بن عيسى الإلبيرى سنة ٤١٦ إلى بعض إخوانه، وكان من أفراد الزهاد، وفيها يقول لصاحبه (١):

«هيّأتك يد القدرة هيئة روحانية، وأحياك روح القدس حياة إلهية، وألبستك الشريعة لباس التّقوى، وراشتك الطبيعة بريش النّهى (٢)، حتى تطير مع الروحانيين فى مجال الصّدّيقين إلى منازل المقرّبين، فتذوق برد عيش النعيم، وتلذّ بالنظر إلى وجه القيّوم، وتشتاق إلى لقاء الربّ الرحيم. . وإن لله يا أخى عبادا أقام أرواحهم بقيّوميّته على صراط مستقيم، فمشت بأقدام الصدق إلى الحق، فدنت منه ونظرت إليه على جلاله، فى اتساع كماله، فضعفت لكبر سلطانه، ثم أفاقت بالإسلام ونطقت بالإيمان، واتصلت بالقرآن، وعلّمها ففازت بالحكمة، وانقطعت إليه بالكلية، ودانت له بالحنيفية،


(١) راجع فى النص الذخيرة ١/ ٨٤٧ وما بعدها.
(٢) النهى: العقل.

<<  <  ج: ص:  >  >>